الفن و سينما

نقاش فكري حول مساهمة الفن الغيواني في تثمين إيقاعاتنا الشعبية الغنائية

بقلم سمير السباعي

عرفت الخزانة البلدية بالحي المحمدي بالدار البيضاء مساء يوم الجمعة 25غشت 2023تنظيم لقاء فكري بعنوان ” إسهام الظاهرة المجموعاتية في تثمين الإيقاعات المغربية”، و ذلك في إطار تنظيم الدورة الثانية من المهرجان الوطني لظاهرة المجموعات الذي اختتم فعالياته السبت المنصرم.
وقد حاول المشاركون في هذا اللقاء الفكري مقاربة الدور التاريخي الذي قامت به المجموعات الغنائية التي أسست للفن الغيواني مثل ناس الغيوان وجيل جيلالة والمشاهب من دمج و تثمين للإيقاعات المغربية التراثية في أعمال غنائية ذات عمق مغربي أصيل.
و قد أبرو عبدالله لوغشيت أحد مسيري اللقاء أن الجسم الإعلامي وباقي المختصين و المهتمين بالفن الغيواني لهم مسؤولية مشتركة الآن، من خلال ضرورة فتح نقاش فكري يبتعد عن إعادة إنتاج نفس الخطاب الاستهلاكي الذي غالبا ما كان يستعرض تاريخية تأسيس فن المجموعات الغيوانية عبر رصد أسماء المؤسسين أو تواريخ التأسيس دون وقوف واضح على المكنونات الإنسانية والفنية العميقة داخل المتن الغنائي والإيقاعي الذي جاءت به هذه المجموعات.
و قد عبر بدوره الإعلامي و المهتم بالفن الغيواني العربي رياض عن ضرورة انخراط مقاطعات الدار البيضاء كعاصمة اقتصادية للمملكة في التأسيس لفعل ثقافي حقيقي، على اعتبار أن التنشيط الثقافي المؤسساتي التكاملي في هذه المدينة ظل معطلا بشكل كبير لسنوات طويلة في غياب أي أفق واضح المعالم عند أصحاب القرار السياسي والمنتخبين، خصوصا إذا علمنا حسب رياض أن تحديد الهوية الثقافية عند هؤلاء لايزال مرتبكا طالما لم يأخذ في الاعتبار أن هذه المدينة هي جماع عدد من الهويات الثقافية المغربية التي أكدت حضورها تاريخيا في المدينة بأشكال وتعابير متعددة بشكل جعلها قادرة على أن تكون منصة فنية حقيقية ساهمت في دعم مسارات من الفنانين الذي وفدوا على البيضاء أمثال رويشة و عبد الهادي بلخياط. يبقى المهم حسب نفس المتحدث أن الرهان قوي الآن في ظل الزخم الذي أحدثه تنظيم هذا المهرجان من أجل العمل على إنجاز أرضية فكرية قادرة على مقاربة حضور الإيقاعات المغرربية المتنوعة داخل الغناء الغيواني بما يضمن تشكيل أبحاث علمية مستقبلا تخدم ذاكرة هذا الفن واستجلاء معالمه.
و قد شكلت مداخلة عبد الله رمضون الباحث الموسيقي محطة مهمة داخل الندوة من أجل استعراض أهم الفروق الفنية بين عدد من الإيقاعات الشعبية المغربية في استحضار للشروط التاريخية و المجالية المنتجة لها مع التأكيد في نفس الآن على القيمة الفنية الكبرى التي جاء بها الفن الغيواني كرافد ثقافي جديد ظهر في بداية سبعينات القرن الماضي مشتغلا على تلك الإيقاعات التراثية مثل العيساوي والكناوي والملحون جاعلا منها مواد خام لإنتاج عدد من الأغاني التي لازال لها حضور في الذاكرة الجماعية المغربية إلى الآن. بينما حاولت مداخلة الكاتب والناقد السينمائي حسن نرايس أن تقف عند أبرز المعاني والدلالات التي يمكن استجلائها في غناء المجموعات الغيوانية مركزا في هذا المقام على تجربة ناس الغيوان كنموذج، حيث اعتبر أن الحديث عن الفن الغيواني في حقيقته كلام عن تجربة موسيقية تلتقي فيها الثنائيات بقوة، سواء من حيث مبنى ومعنى الغناء نفسه أو من حيث قدرة الرواد الأوائل على التعبير بلغتين الأولى منقوطة و الثانية مسموعة أو من حيث بروز إيقاع موسيقي واضح في الغناء المجموعاتي شعرا و إيقاعا.
معتبرا أن شهادات عدد من الأعلام الثقافية المغربية والعالمية أمثال المخرج السنيمائي مارتن سكورسيزي والكاتب الطاهر بنجلون قادرة على الوقوف على حجم التأثير الذي أحدثته الموسيقى الغيوانية بإيقاعاتها المغربية التراثية وآلاتها التقليدية و تمردها القوي والناعم في نفس الآن من تأثير فني قوي على الصعيد العالمي نجح في رسم صورة فنية عن الواقع الاجتماعي التاريخي للمجتمع المغربي بشكل جعل من موسيقى ناس الغيوان قادرة على أن تضمن لها مساحة خاصة حتى في السينما العالمية.
وقد كانت كلمة نرايس مناسبة أيضا للوقوف على القدرة التي عبرت عنها الأغنية الغيوانية في مخاطبة إنسانية الإنسان خارج حدود الزمان و المكان عبر ثنائيات عديدة مثل الخير والشر و الألم والأمل و الحياة والموت بشكل يكشف عن تناقضات المجتمع الإنساني وينتصر في نفس الآن للقضايا الاجتماعية مثل محاربة الفقر والاستغلال والتفاوتات الطبقية التي تحضر حتى في الطقوس الجنائزية المواكبة للحظة الموت عبر إيقاعات موسيقية أصيلة، تنادي في حالات غنائية كثيرة الإنسان الفردي والجماعي عبر قاموس كلامي و آلات موسيقية تشكلت مادتها الأولية من الطبيعة.
وقد عمل جعفر سعيد استاذ التواصل والمختص في السوسيولوجيا داخل هذا اللقاء الفكري أن يؤكد على القيمة الكبرى التي جاء بها الفن الغيواني من حيث نجاحه في تثمين و رسملة موروثنا الثقافي الغير مادي بأشكاله المتنوعة ضمن إيقاعات موسيقية ضمنت استمرارية شعبية لهذا الموروث على عكس المبادرات الرسمية للدولة التي وإن حاولت جاهدة الحفاظ عليه إلا أن مقاربتها له لم تكن غالبا إلا في إطار مناسباتي فلكلوري مرتبط بضرورة استحضار التراث الغنائي الشعبي وتوظيفه في إحياء بعض الاحتفالات ذات البعد الوطني، ضمن ثنائية الأصالة والحداثة اللتين حرصت السلطة في المغرب رغم فقر الإمكانيات و تذبذب بعض السياقات على التعامل من خلالهما مع تدبير المشهد المغربي ككل، وبالتالي فالظاهرة الغيوانية التي اعتبرها سعيد جعفر نتاجا حقيقيا لحركة مجتمعية و سياسية شهدتها البلاد منذ السبعينات كانت قادرة على إبراز شكل من أشكال الترابط الاجتماعي المغربي، عبر أغاني نهلت من التراث و استطاعت أن تخاطب قاعدة واسعة من المجتمع المغربي بمختلف شرائحه.
وبالتالي فالرهان المطروح حاليا ضمن نفس المداخلة هو ضرورة العمل على رسملة حقيقية لهذه الإيقاعات المغربية والفن الغيواني الناطق بها من خلال التأسيس لمرصد وطني أكاديمي يكون قادرا على تجميع والحفاظ على موروثنا اللامادي وجعله قوة ناعمة لصالح الدولة. وقد عرفت أشغال هذا اللقاء في النهاية بعض مداخلات الحضور التي انصبت في مجملها على ضرورة الخروج عن نمط تقليد إبداعات الرواد في أي احتفال مستقبلي بالفن الغيواني لضمان الإتيان بالجديد مع ضرورة انفتاح المهرجان أيضا على شراكات داعمة، سواء في المغرب أو خارجه، في حين سجل البعض دعوة إلى الانفتاح أكبر على الطاقات الأكاديمية القادرة على استجلاء فكري للفن الغيواني بينما اعتبر آخرون الحاجة ملحة الآن إلى تدوين متون المجموعات الغيوانية بالحرف الموسيقي في إطار منطق ينتصر للبحث الاكاديمي المختص القادر على التوثيق و الحفاظ على هذا الموروث الغنائي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى