ترامب يُعاقب العدالة: حين تصبح القاضية أخطر من مجرم الحرب!

في عالم يُفترض أنه بني على القانون الدولي، يبدو أن العدالة أصبحت شيئًا من الترف، وأن القضاة باتوا أهدافًا في مرمى نيران السياسة لا حُماتها.
من قلب هذا التناقض، قرر الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، أن يضع المحكمة الجنائية الدولية تحت حذائه السياسي، لا لأن القضاة فسدوا أو زوروا أو تحاملوا، بل لأنهم تجرؤوا فقط على فتح ملفات جرائم حرب تتعلق بجنود أمريكيين وإسرائيليين. العقوبات التي فرضها ترامب على أربع قاضيات، ليست فقط صفعة قانونية، بل إعلان صريح: العدالة الدولية مسموح بها فقط إذا كانت تخدمنا، وتُمنع إذا لامست “أصدقاءنا”.
ترامب، كعادته، لا يرى في القانون إلا أداة قابلة للتوظيف، شأنه في ذلك شأن أي مستبد صغير في دولة فاشلة. لكن الفرق أن ترامب كان رئيس أقوى دولة في العالم، ما يجعل فعله أكثر وقاحة وأشد خطورة.
إنه لا يُعاقب أشخاصًا، بل يُعاقب فكرة العدالة نفسها. أربع قاضيات مستقلات تم اتهامهن ضمنيًا بالخيانة، فقط لأنهن قمن بعملهن.
وهو اتهام يُذكرنا بمحاكم التفتيش، حين كانت محاربة الظلم جريمة، والسؤال عن الحقيقة رجسًا من عمل الشيطان.
لكن المفارقة لا تقف عند حدود أمريكا. فبينما تتحدث واشنطن ليل نهار عن حقوق الإنسان والديمقراطية والعدالة، تجدها أول من يُجهز على كل ذلك إذا هدد مصالحها أو مصالح حلفائها.
إسرائيل، التي تقصف غزة ليلًا ونهارًا، وتحولها إلى ساحة تجارب لأسلحتها، تحظى بحماية دبلوماسية كاملة، تُحصنها من أي ملاحقة أو مجرد سؤال.
ترامب، وهو ابن هذه المدرسة، لا يُهمه أن يموت آلاف الأبرياء، بل ما يُقلقه هو أن يُسأل أحد حلفائه: لماذا قتلت؟وما أروعها من مفارقة! قاضٍ يُلاحق قاتلًا، فيُصبح هو المجرم، بينما القاتل يُصفق له في المؤتمرات الصحفية. العدالة تُدان، والظلم يُكافأ.
ومع ذلك، لا يزال البعض يحدثنا عن “النظام الدولي” و”القانون الدولي” و”المجتمع الدولي”، وكأنها كلمات لها معنى في عالم تُحكمه إرادة القوة، لا قوة القانون.
إن نيتشه، حين تحدث عن “أفول الأصنام”، لم يكن يتحدث فقط عن المرحلةالتي عاشها ، بل عن كل القيم التي تتحول إلى شعارات جوفاء. هذه المحكمة، مثل أصنام العالم المتحضر، سقطت تحت أقدام الأقوياء.
وإرادة القوة التي تحدث عنها نيتشه لم تعد إرادة فردية بل إرادة أنظمة كاملة: أمريكا، روسيا، الصين… كلهم يتصارعون على من يضع التاج فوق رأسه، لكنهم جميعًا يُخفون قبضة حديدية خلف ظهورهم. والقصة لا تقف هنا، بل تنسحب على كل المؤسسات الدولية.
متى كانت المحكمة الجنائية جريئة بما يكفي لملاحقة قادة حقيقيين؟ هل رأينا يومًا مذكرة توقيف بحق مجرم حرب غربي؟ المذكرات دائمًا جاهزة لرؤساء أفارقة، لقادة صغار، لمقاتلين في دول منهكة، لكن حين يصل السيف إلى عنق واشنطن أو تل أبيب، تُكسر الأقلام، وتجف الأحبار، وتُقطع التمويلات.
وليس غريبًا أن نرى الإعلام الغربي يُجمل هذا الجنون، ويبرر العقوبات، أو في أحسن الأحوال، يصمت. لا ضجيج، لا عناوين عاجلة، لا برامج خاصة.
فحين يُهان القانون من قِبل الأقوياء، يصبح الصمت فضيلة!
وفي ظل كل هذا العبث، تُركت الشعوب الضعيفة وحدها في وجه العاصفة. هي التي تدفع الثمن: أفغانستان، فلسطين، العراق، سوريا، السودان… كل هذه الدول أصبحت مسارح لصراعات الكبار، وجثث أبنائها هي التي تُستخدم كبيادق على رقعة شطرنج جيوسياسية. القضاة يُعاقبون، الضحايا يُنسون، والجلاد يُستقبل بالأحضان.
أيها السادة، نحن لا نعيش في عصر العدالة، بل في عصر العقوبة الانتقائية. ترامب لم يعاقب القاضيات لأنه يرفض الظلم، بل لأنه يريد احتكاره. هذه ليست قصة قاضٍ وقانون، بل قصة “من يملك الحق في القتل دون أن يُسأل؟”.
في النهاية، العدالة تُصبح شيئًا يُباع ويُشترى، مثل كل شيء آخر في عالم تحكمه شريعة الغاب… لكن بربطة عنق، وكاميرا، ومندوب دائم في مجلس الأمن.