لقاء فكري بالدار البيضاء يناقش حضور الخطابة في لغة المدرس المغربي اليوم

بقلم سمير السباعي

في إطار افتتاح موسمه الفكري الحالي 2023-2024 نظم مركز الدراسات و الأبحاث الإنسانية (مدى) بمقره الكائن بالدار البيضاء محاضرة فكرية افتتاحية يومه السبت 30 شتنبر 2023م على الساعة الثالثة بعد الزوال، بعنوان الحجاج واللغة أدوات عمل المدرس.
وقد شكل هذا اللقاء الفكري مناسبة لمحاولة رصد حضور الخطابة في الدرس التعليمي اليوم، بين ما يتطلب ذلك من تأصيل نظري معرفي للموضوع و ما يستلزمه من حديث عن آفاق الممارسة على أرض الواقع التدريسي الآن. ضمن هذا السياق أكد الدكتور عبد الاله الكلخة مسير اللقاء أن استضافة الدكتور الأستاذ و البلاغي محمد الولي كمحاضر رئيسي لهذا الدرس الافتتاحي لأنشطة مدى لهذا الموسم الحالي هو تأكيد لمكانة الرجل العلمية و الأكاديمية كأحد أبرز المختصين في الدرس البلاغي على الصعيدين المغربي والعربي خصوصا إذا ما علمنا قوة المنجزات التي أصدرها المحاضر في هذا الباب من ترجمات و كتابات نقدية كانت لها مساحتها في المقروء البلاغي و النقدي إن صح التعبير في الساحة الفكرية بشكل عام مثل ترجمته رفقة الباحث محمد العمريي لكتاب جان كوهين “بنية اللغة الشعرية” و ترجمته لكتاب بول ريكور “الاستعارة الحية” وصولا إلى ترجمته الأخيرة لكتاب “المصنف في الحجاج-الخطابة الجديدة” للبلاغيين شاييم بييرلمان ولوسي اولبيرخت تيتكا و الذي يشكل حسب الكلخة ارقى ما توصلت إليه الدراسات البلاغية الغربية كنتاج لتقاطع معرفي بين الدرسين الفلسفي والبلاغي. ولم يفت مسير اللقاء في كلمته الترحيبية الإشادة بالمحاضر الرئيسي لهذا اللقاء الفكري كأحد أبرز الأسماء التي كان لها حضور وازن في الجامعة المغربية خاصة على مستوى الدروس والمحاضرات التي كان يقدمها محمد الولي للطلبة و التي كان يحاول من خلالها التفاعل مع تساؤلاتهم المعرفية.
وقد اعتبر بالمناسبة المحاضر نفسه أن التجربة الطويلة التي قضاها في التدريس داخل المدرسة و الجامعة المغربيتين جعلته ينتبه إلى أنه كان يمارس نوعا من الخطابة، التي كانت تشكل أحد مواضيع هذا الدرس أو ذاك وهو ما جعله يهتم بالتنظير لهذا المفهوم كأداة يمكن لمدرس اليوم الانتباه إليها و الاشتغال بها طالما أن الخطابة لها حضور فعلي في عملية التدريس ككل داخل حجرة الدرس أو الفصل.
و قد كان محمد الولي حريصا في البداية على التقعيد لمحاضرته من خلال تأكيده على ضرورة التفريق على مستوى المعجم الاصطلاحي بين الخطابة التي تختار الطابع الأسلوبي فتصبح آنذاك أقرب إلى البلاغة و بين الخطابة التي يحركها الحجاج فيجعل منها عمليا خطابة في حد ذاتها، وهي تمايزات مصطلحية أكد الولي على ضرورة الانتباه لها حين مقاربة هذا الموضوع،. وطالما أن الخطبة هي الوعاء النصي الذي تتحرك داخله الخطابة فقد اعتبر الولي أن إنتاجها مرتبط بتقسيمات ثلاث يجب أن تكون معدة سلفا تبدأ بالمقدمة أو الاستهلال الذي يحرص من خلاله الخطيب على استعراض موضوع الخطبة و منهجية تناوله له مرورا بالحجاج الذي يشكل حسب المحاضر نواة الخطبة ومحركها الجوهري على اعتبار أنها المساحة التي يقوم فيها الخطيب إما بالدفاع عن فكرة أو محاولة الإقناع بها أو الدعوة من خلالها إلى تبني طرح معين، وصولا إلى الخاتمة التي تشكل في نظره محطة مهمة لرصد حقيقة التفاعل العاطفي والتأثير الوجداني الحاصل لدى المتلقي من أثر الخطبة شريطة أن يكون ذلك مقرونا بفعل منجز قابل للملاحظة، ذلك أن الخطابة في أسلوبها التقليدي حسب الولي تستلزم تحقق أثرها في فعل المتلقي مستشهدا برصد نجاح خطبة السياسي في ذهاب الجمهور المتلقي إلى صناديق الاقتراع من عدمه. وقد كان البلاغي المحاضر حريصا أيضا على الإشارة لعدد من المحددات التي تسجل حضورها في الخطبة سواء في الأسلوب اللفظي المستعمل داخل هذه الأخيرة أو شكل أداء أو إلقاء الخطيب. وبالتالي فالركائز الأساسية لأي خطاب خطبة حسب الولي تتمحور اساسا حول وجود نص خطابي و خطيب ملقي و جمهور متلقي و هي عناصر لا نستطيع تلمسها و رصدها حسب نفس المحاضر في الخطاب العملي التجريبي الذي اعتبر فيه حضور الخطيب داخل نسقه العام باهتا طالما أن الحسم على مستوى الخطاب نفسه يكون لصالح المختبر والتجربة و البراهين المنطقية الواضحة بمنطق أرسطي (لوغوس) يقطع صلة التأثير العاطفي بين الباث والمتلقي ليولد علاقة موضوعية بعيدا عن أي روح خطبية. في حين اعتبر محمد الولي نفسه أن الخطاب الفلسفي بما يعنيه من حضور لمستمع كوني تجريدي يمكن أن تحضر فيه بدرجة وسطى إن شئنا القول الخطابة ، رغم أن هذه الأخيرة تفرض بالضرورة وجود مستمع جمعي أي جمهور قادر على التفاعل مع النص الخطبي بكامل إدركاته و حواسه وصولا إلى ترجمة التأثر الانفعالي إلى فعل ملموس لأن الوقوف فقط عند مستوى الإقناع بالموضوع لن يحقق غرض الخطابة من منظور أسلوبها التقليدي حسب الولي.
وفي حديثه عن الدرس التعليمي داخل القسم اليوم أكد المتدخل نفسه أن الخطابة لها حضور في عملية التعليم خاصة على مستوى المواد المحسوبة على الإنسانيات بدليل أن عناصر العملية الخطبية متوفرة وهي المدرس (الخطيب) و الدرس(الخطبة) و الجمهور المتلقي وهم التلاميذ داخل بعد إنساني يؤطر الخطاب ككل، مشيرا في نفس الآن أن الحديث عن مفاهيم مثل ديداكتيك و بيداغوجيا التدريس ما هي في الحقيقة إلا أدوات خطابة تروم تحقيق الخطبة داخل فضاء الإلقاء أو التعلم لصالح جمهور مستمع له خصوصية و نعني به أبناء وبنات القسم من التلاميذ. لكن العنصر الرئيسي الذي يميز هذا النوع من المستمعين حسب الولي دائما أنهم كتلة منسجمة إلى حد ما، على عكس باقي الجماهير المستقبلة لأنواع أخرى من الخطب كجمهور البرلمانيين مثلا. وفي استعراضه للخطة الخطابية التي ينبغي على مدرس اليوم اتباعها من أجل إنجاح فعل الخطبة داخل الفصل أشار محمد الولي أولا، إلى ضرورة التركيز على الإعداد الجيد للمادة الخام التي يجب أن تتضمن المعلومات الأساسية القابلة للتدريس الغير الناقصة و التي تحظى معرفيا بنوع من الاتفاق أو الإجماع و ثانيا، إلى حسن تنظيم الحجاج داخل عملية الإلقاء بشكل يسهل معه فعلا عرض موضوع الدرس بحجج مقنعة إن صح القول مع الحرص في مرحلة ثالثة، على عدم اشتراط تحقق أثر فعل الدرس أو الخطبة في سلوك المتعلم لأن هذا سيفتح الباب لظهور أنواع من التعبئة و الدعاية المجانية لهذا الطرح أو ذاك داخل خطاب المدرس بما لا يتوافق مع القيم التعليمية باستثناء بعض المواد الدراسية التي يجب تتبع حضور الفعل فيها عند خاتمة أي حجاج لدرس معين خاص بالأخلاق أو التربية على المواطنة وغيرها. وفي تعقيب له على مداخلة الدكتور محمد الولي أكد عبد الاله الكلخة أن دور الخطاب بمفهومه الفلسفي العام هو تحقيق التذكير و التأثير عند المتلقي و ليس بالضرورة الذهاب إلى تحقق الخطاب في فعل هذا الأخير وهنا تكمن أهمية العملية التدريسية و حساسيتها حسب الكلخة بين ما ينتجه صاحب القيمة و ما يمرره ناقلها أي المدرس، الذي تشترط فيه صفة العدلية مع نفسه كضامن للموضوعية في الأداء الذي يتحقق مع الأخذ بعين الاعتبار المستوى العام للتلاميذ. مع تأكيد المتحدث في نفس الآن على أهمية استحضار إمكانيات انبعاث الجدل عند هذا الطرف أو ذاك طالما أنه في المنطق الأرسطي هو نوع من الخطابة التي قد تصل بالمجادل إلى باحث عن الحقيقة لا أقل ولا أكثر. وقد عرفت نهاية هذا الدرس الفكري تفاعل عدد من الحاضرين عبر طرح عدة تساؤلات و إضافات انصبت أغلبها إما في اتجاه ضرورة التأكيد على الأخذ بالاعتبار لهندام الخطيب وشكله الخارجي و فضاء الخطاب كعناصر يمكن أن تؤثر في عملية الخطابة، أو في اتجاه الدعوة إلى التأصيل لهذه المفاهيم الخطابية داخل المعجم المهني للمدرسين اليوم بما يعني ذلك إنتاج الأدوات الديداكتيكية المعينة على تفعيلها، قبل أن يختار البعض التأكيد على أن الخطابة تظل حاضرة و إن بمستويات متفاوتة في خطاب العلوم التجريبية إسوة بحضورها البارز في خطاب الإنسانيات إلى جانب بعض الإضافات الأخرى للحاضرين. وفي كلمته الختامية و تفاعلا مع ما جاء من مداخلات الجمهور أكد محمد الولي أن ما يضمن نجاح هذه الخطبة أو تلك، هو قوة المضمون لأن العناصر الأسلوبية من بديع و استعارة و قافية أو غيرها إلى جانب الشكل الخارجي للخطيب يظل لها تأثير نسبي ومحدود في العملية. و بخصوص لغة خطابة التدريس أشار الولي أن منطق كل جنس بلاغي يفرض التحرك ضمن جنس معين من الخطابة، وهو ما أفرز أنواعا من الاساليب المتعارف عليها في الفعل الخطبي أهمها الأسلوب المتوسط الذي يحرص الخطيب فيه على إيصال الفكرة بأيسر الطرق الممكنة اعتمادا على قواعد نحوية و تركيبية تداولية بسيطة، و هو الأسلوب الذي يرى محمد الولي أنه يصلح لخطاب المدرس بما يضمن الانتصار لحضور المعجم الخاص بالمادة المدرسة فقط، بلغة تقريرية إن صح القول ضمن سهل ممتنع تكون فيه للخطابة حضور خاصة في درس الإنسانيات.

Exit mobile version