بوادر النظام العالمي الجديد بين نهاية مفهوم الدولة القومية واحياء مفهوم الامة الدينية.
إن الصراع الدولي الحالي يمكن ان يعيد مفهوم الامة الدينية الى مكانه الاصلي بعدما تغيرت قواعد الصراعات و الحروب، واصبح الأمن القومي للدول معيارا للقوة ومعادلة لمواجهة الشر ، و اصبحت معه بعض الدول الضعيفة غير قادرة على مواجهة الدول القومية لعدم توفر القوة الكافية لديها، بل ان الضعيف في الماضي تقوى اليوم و أصبح طرفا اساسيا في الصراع و متدخلا حقيقيا في الحرب الدينية بعدما قضى مدة طويلة غير قادر على الدخول في الحرب الدينية التي اكملت دورتها، وهي مقبلة اليوم على العودة للاساس العقدي في الصراع بين بني البشر و القائم على حساسية الدين، مما ينبئ يزوال ونهاية مفهوم الدولة المعاصرة و الذي كانت الغاية منه التقسيم واضعاف نفوذ الامم وتشتيت الجهد والقوة لديها.
هذا ويعتبر الشرق الاوسط ساحة الحروب الدينية لكونه مهد كل الشرائع السماوية خصوصا ارض فلسطين، حيث يوجد في التاريخ و الكتب و الشرائع السماوية دلائل على وجود الحروب والصراع والتدافع بغاية تحقيق الانتصارات، و ينظر للمنتمين للشرائع من الناحية العددية والامكانيات العسكرية معيارا للتفوق، فيتبين ان الديانة الاضعف مآلها الانهزام والخضوع بمنطق القوة و الغلبة والتفوق والتحكم .
كما ان منطق التعايش الديني لا يمكن ان ينجح مع وجود تيارات ثقافية متطرفة وتيارات ومذاهب معتدلة لكون معادلات التعايش غير متكافئة وليس لها نفس الاهداف، فالاسلام المعتدل يمكن ان يتعايش مع التيارات الدينية المعتدلة الاخرى المسيحية واليهودية، والقبول بالاختلاف معه، بينما التيارات المتطرفة التي تجمع بين الافكار الدينية المتشددة والسياسية اليمينية التي تهدف الى السيطرة فلا هي تحترم و تبقي على العهود ولا هي تؤمن بالاختلاف، وهي سبب الصراعات والحروب.
هذا وهناك كتابات كثيرة حول موضوع صدام الحضارات ونهاية التاريخ، الا ان الصراع ينظر اليه اليوم بمنطق القوة العسكرية، فيبقى غير مضمون النتائج لكون السلاح لم يعد محددا للقوة او يكفي امتلاكه او صناعته، بل الشجاعة على القتال في ساحة المعركة والقدرة على اختراق الانظمة الدفاعية و الحيلولة دون تحقيق ما يرضاه بعض المتصارعين لانفسهم بحكم نسبية التوقعات و الصبر على التضحية والتكلفة، في ظل قيام الحروب على الخذع و المفاجآت الخارجة عن المنطق والحساب الذي تدار به الحروب كلها محددات للفوق.
ان سياسة تقسيم العالم الى دويلات صغيرة وجرها الى هيئة الامم المتحدة وادخالها في دوامة النزاعات و تضارب المصالح وضرب وحدة الامم في ركائزها بما يسهل اختراقها نظميا و عسكريا وثقافيا، و حتى اذا طالبت دولة معينة بحقوقها، تدبر لها ازمة لكي ترتبط بمنطق المظلومية، فتبقى تحت التحكم الاقتصادي والعسكري و الخضوع لاملاءات سياسة المديونية.
واليوم يبدو ان هذا التقسيم تقادم و وصل نهايته وسوف تنهيه الحروب الحضارية التي ظهرت بوادرها و تدور رحاها حاليا بين الشرق والغرب والمعززة بالاصطفاف في شكل احلاف قائمة على صراع الثقافات سواء في حرب اوكرانيا او فلسطين.
بطبيعة الحال تبقى امكانية التعايش قائمة لانقاذ البشرية اذا احتكم العقلاء للتعاقد والتوافق بدلا من ان يكون التعايش لغة الضعفاء من وجهة نظر الاقوياء، ويخضع لتفسير احادي الجانب و يجعل من بعض الدول اطرافا ضعيفة وسهل الانقضاض عليها، بل لا يمكن للتعايش ان يراد منه تثبيت خيارات غير متوافق عليها، او استهجان العلاقات الدولية واستغلالها بمنطق التفوق والقوة، وبعد ذلك يدفع الثمن غاليا لمجرد فتح الباب باسم التسامح.
ان لقضية فلسطين علاقة وطيدة بالعالم الاسلامي وهي بوصلة تاريخية للصراع الحضاري، و تزداد ارتباطا بالمسلمين كلما استمر الصراع حولها. فمهما كانت النتائج لن تنتهي لارتباطها بالمسلمين و المؤمنين، بحجة دينية حيث يقول الرسول الكريم : … مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد…الخ. كما ان المسلم يرث المسلم … بالاضافة الى قول الله عز وجل : انما يرث الارض عبادي الصالحون.
وهذه الدلالات على الروابط لا تظهر في الواقع وانما قد تحركها الحقائق والنتائج السلبية التي تلحق بالفلسطينيين فتحرك المشاعر الدينية لدى المسلمين التي تستفزها الخليفة الدينية و التي تقف من وراء الصراع والغاية منه، لاسيما اذا وجدت من يدعو الى تأجيجها وقيادتها، فالارض لم تثير السخط القومي الاسلامي المخيف لكن المساس بالمقدسات الدينية سوف يحدث مفاجآت غير منتظرة.
واذا ما تساوت دوافع الصراع، وخرج الوضع عن السيطرة فان التضحيات لن تتوقف حتى تبطل دوافع احد الاطراف، فالاسلام الحقيقي هو الحكم بين الشرق والغرب لكونه لا ينصر الظالم وان كان الظالم مسلما و ينصر المظلوم وان كان المظلوم غير مسلم، و لا يمكنه الضغط على المسلم في امر لقبول الظلم سواء كان المظلوم مسلما او غير مسلم. فالاسلام المعتدل يميز بين الافعال ولا يميز بين الاجساد كما لا يدعو الى الاعتداء على حياة غير المسلمين مهما كانت ديانتهم و طريقة عيشهم و ظروفهم.
و مشروع الشرق الاوسط الجديد قد يصبح الشرق الاوسط القديم لكون الصراع الدائر حاليا قد ينهي حدود الدول العربية الحالية دينيا، فالشعوب بسبب الضعف و تصدع العلاقة بينها وبين حكوماتها تنذر ببوادر الخلافة الاسلامية التي تبدو قريبة بسبب تشتيت الامة الاسلامية وان الاعلان عنها لانهاء التقسيم الذي تهاوت بسببه قيمة المسلمين وقضاياهم حتى وصل الامر الى الاعتداء على مقدساتهم يبدو قريب.
ان المسلمين يعلمون جيدا مرحلة تفوق وعلو اسرائيل في الارض بمنطوق الايات القرآنية وهم مقتنعون بنهايتها بنفس المنطوق.
فالحرب ليست هي الخيار الافضل ولا هي الخيار الوحيد لكون الحياة حق الهي ممنوح للجميع، ومصادرة الحق في الحياة تحت اية ذريعة امر مرفوض و غير مشروع لأي كان وتحت اي ظرف لاسيما حياة المدنيين، وعليه فان التيارات المتطرفة هي سبب الحروب ، والتطرف يخلق التطرف ويصادر كل الخيارات التي تقدس الحق في الحياة للجميع و يصادر تبادل الاعتراف بين الشرائع السماوية و البحث عن التوازن بالسلام بدلا من محاولة تحقيقه بالقوة على حساب مصالح المستضعفين تبقى معادلة خاطئة.
فالوضع الدولي الحالي يشكل خطرا حقيقيا غير مسبوق على العالم، خصوصا مع وجود حمقى و مجانين يقودونه نحو الهاوية، والباقي ممن يحسبون على العقلاء لا يحركون ساكنا، تجاه الانسانية، لذا يبقى المتوقع هو النهايات الكارثية.
الدكتور احمد درداري
رئيس المركز الدولي لرصد الازمات واستشراف السياسات بمرتيل