الا نتحا ر بين اسباب الانتشار و أزمة التجاهل
لقد تباينت وجهات النظر حول آفة الانتحار اعتمادا على المرجعيات الوجودية العامة مثل الدين والشرف ومعنى الحياة. ذلك ان الأديان تعتبر الانتحار معصية وان الحياة جوهر الإيمان، وهي مقدسة. في حين يعتبر الانتحار تضحية في بعض الدول مثل الهند، و أنه ممارسة جنائزية تفرض على الأرملة بالقاء نفسها في المحرقة الجنائزية وفاء لزوجها، سواءً برغبتها أو تحت ضغط من الأسرة والمجتمع.
ويعتبر الانتحار ومحاولة الانتحار جريمة في الدول الغربية و كان يعاقب عليها جنائيا في الماضي، إلا أنه اليوم لم تعد كذلك في معظم البلدان الغربية. بينما في معظم البلدان الإسلامية ما تزال جريمة جنائية .
ولعل انتشار ظاهرة الانتحار في مجتمعنا اصبح اليوم مقلقا و موضوعا يطرح تساؤلا جديا على الجميع بدءا بالعلماء والباحثين، والسلطات و الحكومة والمجتمع والاسرة.. حيث اننا امام شح كبير في الابحاث والدراسات ما عدا تلك المتفرقة والمحدودة سواء وطنيا او ترابيا.
والاسئلة المطروحة هي :
لماذا الانتحار ؟
ولماذا لا توجد حاليا دراسة وطنية علمية شاملة حول ظاهرة الانتحار ببلادنا؟
وهل الانتحار له علاقة بفكرة ان المجتمع مقبل على التغيير أم ان المنتحر يرفض التغيير لجوانب مهمة للحياة، ويواجه الواقع من خلال دفع نفسه الى الانتحار أو محاولة الانتحار؟ .
ان التمعن في شخصية المنتحر يدعو الى الاستغراب و يتطلب الاستعجال لمعرفة الاسباب خصوصا وان المنتحرين هم من جميع الاعمار و من كلا الجنسين، والخطير في الموضوع هو أن العوامل المؤدية إلى الانتحار، لا يمكن ربطها بظواهر اخرى كالطلاق أو الهدر المدرسي أو الخلافات العائلية او العنف الجنسي الممارس على الأطفال الذين حاولوا الانتحار، او الامراض النفسية … فهذه كلها ظواهر نفسها لها اسباب، وحتى التركيز على الوسائل المستعملة من طرف المنتحر للقضاء على حياته تبقى سطحية ايضا ووسيلة لا تبرر الغاية او الدافع. بل يتطلب الامر البحث في الاسباب الحقيقية الكامنة وراء لانتحار، مما يتطلب القيام بدراسات علمية دقيقة يمكن الاعتماد عليها للوصول الى الاسباب الحقيقية المؤدية الى الانتحار ، وتقدم حلولا حقيقية لانهاء خيار الانتحار لدى الأشخاص المأزومين، وتوفر علاجات دائمة و بديلة عن الحلول المؤقتة والمرتجلة مثل إعداد برامج تربوية لتقوية المهارات الاجتماعية والنفسية عند الأطفال والمراهقين، او البرامج المتعلقة بالاستماع والدعم النفسي والاجتماعي للأشخاص المتوقع اقبالهم على الانتحار.
ان استفحال ظاهرة الانتحار في العديد من المناطق المغربية اصبحت مصدر قلق، خصوصا ان مجموعة من الأشخاص وضعوا حدا لحياتهم في مناطق متفرقة من البلاد أو حاولوا الانتحار و باءت محاولتهم بالفشل، امام أعين السلطات العاجزة عن تفسير أسباب الظاهرة و ايجاد الحلول ، مما زاد من حدة القلق.
ورغم تسجيل مجموعة من حالات الانتحار، بالمدن و القرى، من فئات عمرية واجتماعية مختلفة، فان الظاهرة ما تزال تقابل بالتكتم على الأسباب وتبقى الظاهرة محاطة بالمسكوت عنه في مجتمعنا تحت عنوان الاسباب المجهولة، و لا يمكن معه الانتظار لكون المنحى في تصاعد.
ان الفهم السوسيولوجي لهذه الظاهرة يبقى محدودا، و التحليل السيكولوجي غير كافي، بل يجب البحث في الأسباب من وجهة نظر دينية ايضا بناء على النتائج الكامنة وراء الأرقام المسجلة .
فالانتحار يتجاوز دور مؤسسات حقوق الإنسان التي تنظر في الارقام والمعطيات غير الرسمية احيانا، بل ان البحث الأساسي يجب ان ينصب حول خمس مرتكزات اساسية تؤشر عليها البطالة والتهميش، ولعلاقات العاطفية وزنا المحارم والحمل خارج مؤسسة الزواج، والعنف النفسي…
ذلك ان غياب الوعي بأهمية حماية حياة الانسان بمرتكزاتها الخمسة المالية والعقلية والبيولوجية والنفسية والدينية يعتبر عاملا محددا لتفاقم ظاهرة الانتحار، خصوصا و ان الدين الاسلامي حدد المقاصد الخمسة لحماية حياة الانسان و صيانة كرامته و الوقاية من اضطراباته النفسية، عكس القانون الوضعي الذي لا يحقق نفس المقاصد، و حينما نتحدث عن التدخل الطبي النفسي والعلاج السيكولوجي نكون امام محاولة لمعالجة الحالات السريرية في الوقت الذي يجب ان نعود للأسس الوقائية الحقيقية التي تقوم عليها الحياة الآمنة والخالية من الاختلالات من أساسها، والتي يزيد من تعميقها التغيير الاجتماعي والاقتصادي الأكثر اضعافا لجاذبية الانسان بفطرته ، اضافة الى انعكاس واقع التحديث والعولمة عليه.
هذا وبالعودة الى الارقام المتوفرة حول ظاهرة الانتحار نجد ان الامر يتطلب ضرورة تعميق الدراسة والبحث حول ظاهرة الانتحار من طرف المؤسسات الدينية و العلمية وحتى المؤسسات الحكومية عليها ان تنظر الى متطلبات الحياة الضرورية لضمان سعادة الفرد، و منها ضبط الظاهرة والتحكم فيها بناء على الادوار الموكولة للدولة لاسيما ادماج الافراد في السياسات العمومية لضمان حد ادنى لسعادة الفرد.
الدكتور احمد درداري رئيس المركز الدولي لرصد الأزمات واستشراف السياسات.