أزمة النخبة السياسية في المشهد السياسي بدول العالم العربي
أزمة النخبة السياسية : يقصد بالنخبة صفوة القوم وزبد المجتمع، وهي مجموعة من الأشخاص النوعيين والأكثر تكوينا من غيرهم. والنخبة السياسية تتميز بالقدرة على التحكم أو التوجيه أو التأثير في الحياة السياسية، بقدر ما يكون عدد الأفراد كبيراً ستكون إمكانية العثور على متفوقين كبيرة دون أن يعني ذلك وجود علاقة حتمية بين العدد والنوعية، ومن خلال التعرف على علاقة النخبة بالقوة السياسية وكيفية تنافس هذه المجاميع من النخب على الاستيلاء على مفاصل القوة السياسية، ذلك أن نظريات النخبة انفردت عن غيرها من النظريات السياسية في الفكر السياسي الغربي المعاصر لما لها من إمكانات تجعل تطبيق اقتراب النخبة من عملية صنع القرار السياسي، أمراً ذا فعالية تحليلية وقدرة تفسيرية عالية، و مفهوم النخبة يختلف باختلاف المرجعيات السياسية التي يخضع لها.
والعمل السياسي يشترط النخبة ويرتبط بالنسق السياسي الكلي، وله علاقة بمجموع الآليات والوسائل، والعناصر المكونة للنسق السياسي العام بكل أبعاده، وبكل ما يرتبط ببنية ووظائف الحياة السياسية، وبكل المرتكزات التي تتحكم في سلوك مختلف الفاعلين من قبيل مؤسسة رئاسة الدولة – الأحزاب -النقابات -الدستور-القوانين –الانتخابات -المؤسسات المنتخبة -المثقفون -المجتمع المدني -الإعلام… الخ.
فالمجال السياسي أكبر من الحزب ولا يمكن اختزاله في توفير الاحزاب فقط، فهي ليست سوى مكون الى جانب باقي المكونات الأخرى داخل النسق السياسي. وعليه، ترتبط وظيفة الحزب وقدرته بعلاقته بباقي المكونات المتفاعلة داخل النسق نفسه، وبنوعيها الداخلية والخارجية أيضا.
ومسؤولية إصلاح او فساد المشهد السياسي العام ليس بالضرورة مسؤولية الحزب، بل قد يكون شريك في العملية التي لها علاقة بالنسق السياسي ككل وبباقي الأنساق الأخرى.
ففي جل الدول والمجتمعات العربية لديها القدرة على انتاج النخب سواء السياسية منها أو الاقتصادية او الادارية. مع وجود تفاوت حول قدرة هذه الدول على إعادة إنتاج هذه النخب بشكل تلقائي حسب درجة نشاط كل نسق سياسي على حدة ودرجة عمل الماكينة السياسية وما تحققه مخرجات النسق تغذية استرجاعية تجدد شرعية الانظمة السياسية.
وتجديد النخبة في الدول العربية تعتريه صعوبة وذلك لحداثة هذه الدول ولوجود تحديات اقتصادية واجتماعية وسياسية التي تمر بها. كما ان أزمة النخب متعددة الأبعاد من حيث إنتاجها وتدويرها باستمرار مما جعل اغلبها يتراجع عن أداء المهام المنوطة بها. فصناديق الاقتراع لا تنتج النخب المطلوبة. والتراجع حاصل على مستوى كفاءة ونوعية النخبة سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو حتى الأكاديمية.
فإلى حد قريب، كانت هناك معايير ناجعة لإنتاج النخب على سيبل المثال النخب الاكاديمية حيث كانت درجة دكتوراه الدولة علامة على جودة انتاج نخبة مثقفة عالية التكوين داخل الدولة.
والأحزاب السياسية ساهمت أيضا في إنتاج النخب من خلال تكوينها واستقطابها خصوصا في زمن الأحزاب السياسية الايديولوجية حيث كانت مشاركتها بالبرلمان قوية وكانت الدولة تطلبها لشغل المناصب العامة.
وكانت الجامعات تزود الدولة بنخب اجتماعية واقتصادية وإدارية مهمة. ولعل النمو الديموغرافي وضعف الأحزاب السياسية وتراجع الإدارة العامة كلها ساهمت بتراجع القدرة على إنتاج وتكوين النخب، مما انعكس سلبا على نوعية القيادات في المجالات المختلفة وبدأنا نلاحظ أناسا في مواقع النخبة السياسية كالحكومة والبرلمان دون كفاءة ودون خبرة سياسية أو حتى في العمل العام والإدارة العامة. وهذا ما ادى الى غياب دور النخبة في ثورات الربيع العربي، وكانت النتيجة هي اصطدام الشعوب مع شرعية الحكومات والانظمة السياسية، وبرزت النخبة الاعلامية أكثر من النخبة السياسية حتى في القترة الحالية، بل تقدمت الصفوف الأمامية بتضحيات مهمة في سبيل الكشف عن حقيقة ما يجري في الواقع.
وتبقى وظيفة توزيع الادوار بين مكونات الدولة ضرورية لمواصلة المسيرة الإصلاحية كالمبادرة التي أطلقها جلالة الملك والتي تدعو الى النهوض بالمشاركة الحزبية وتخليق الحياة البرلمانية باعتبارها خطوة مهمة وتدعو لتطوير دورة إنتاج النخب بالمغرب، حيث إن الإصلاح السياسي الذي يهدف لتطوير الحياة الحزبية والدور الذي تأخذه الأحزاب في البرلمان والكتل النيابية يتطلب ادماج الفئات الطامحة للمشاركة السياسية والعمل السياسي بهذه الاحزاب واستقطاب نخب جديدة، لتقويتها، ورفع الكفاءة السياسية لمنتسبيها. مع ضرورة التركيز على مزجها بنخب سياسية جديدة من فئات الشباب والنساء الذين لم يأخذوا فرصتهم الكافية بالحياة العامة بعد. فالمنظومة السياسية امامها فرصة لتطوير وتجديد النخبة السياسية لتغيير صورة البلدان الداخلية من خلال الدفع باتجاه نخب جديدة التي تساهم في تعميق مسيرة الإصلاح السياسي.
فالنظر الى دراسة موضوع النخبة سوسيولوجيا، وسياسيا وفق مقاربات شمولية تستحضر سيرورة تشكل النظم السياسية. مثل سيرورة التحولات الكبرى التي عرفها العالم العربي، قبل الاستقلال وما بعده، حيث إن المجال السياسي لمل بلد ظل يعكس الاصطدام مع أسئلة الديمقراطية والتحديث والتنمية، ونموذج الدولة او شكل النظام السياسي.
فالأستاذ عبد الله العروي نعته بـ ” الفطام الضروري” بين التبعية والاستقلال، وبين المبايعة والمواطنة. وما تختزنه من استحضار لمفاهيم المخزن والقبيلة، والخاصة والعامة، والعلماء والشرفاء، والعرف والقانون، والزوايا والدولة، والبدو والتحضر، والعلم والأمية، والدستور والتشريع، والمحافظة والتحديث… الخ، الشيء الذي رهن تفكير النخبة بهذه المستويات، وحدد الوظائف التي تضطلع بها.
والواقع يبين بشكل واضح أن هناك تعارض وتناقض بين وجود شروط تتيح أمام النخبة فرص القيام بمهامها كالتي يوفرها المشرع الدستوري من خلال تكريس الخيار الديمقراطي، وما يفترض فيها من مشاركة في صناعة السياسات العمومية بحكم التخصصات في مختلف المجالات، وما يفرضه عليها قانون الجدل المجتمعي الذي لا يعفيها من التأثير بقانون وحدة صراع الاضداد من أجل الفوز بالدور القيادي والاصلاحي للمنظومة السياسية.
فعملية عصر المجتمعات لإخراج النخبة يتم عبر مجالات التكوين المختلفة، وعملية تصدر المشهد السياسي تبين ضعف جودة هذه النخبة التي لا ترقى في مجملها الى مستوى الكفاءة المطلوبة، وانما تراعى فيها عوامل أخرى غير تلك التي يتحدث عنها الأكاديمي والعلمي، حيث نلاحظ اقتران صناعة النخبة السياسية بعوامل من قبيل الاصول الاجتماعية والنسب والزواج والقرابة العائلية والثراء والولاءات المتنوعة والمصلحة الضيقة…الخ.
وقليل من النخبة السياسية من يتدرج عبر مستويات العمل الحزبي وصولا الى القيادة الحزبية، بل هناك صراع داخلي بين النخبة المدينية والقروية على مستوى رئاسة الاحزاب نفسها وفيما بين الاطر الوطنية المكونة لها. اضافة الى وجود خلاف بين النخب السياسية الاكاديمية التي تفرزها الجامعات الوطنية، والتي لا ترغب في ممارسة السلطة، وتلك النخب السياسية الحزبية التي همها الاول هو اقتحام الساحة السياسية والمتوقع ضمن خارطة الحكم بين الاغلبية والمعارضة.
واليوم ترتبط ازمة المشهد السياسي بأزمة النخب، لكون جودة العمل السياسي يحددها سلوكها، وطبيعة الممارسات والأدوار التي تتنافى في عمومها مع متطلبات الأهلية السياسية، لدرجة ان مفهوم النخبة أصبح بعيدا عن جودة الممارسة السياسية، فالنخبة الحقيقية تدافع عن أدوارها داخل مجتمعاتها وترعى توازن النسق السياسي، سواء بقبول التحديث والتقدم، أو بصياغة البدائل المجتمعية لتحقيق ما يقبله العقل والفطرة السليمة والحياة المواطنة.
فطبيعة النسق السياسي العام لا تسمح بتغيير هذه نوعية النخب، كما أن البنيات الثقافية والاجتماعية تتحكم في حدود نشاطها، وعليه لا يسمح بإحداث الانتقال الناظم لتقدم المجتمعات. وأصبحت أزمة انتقاء وتفعيل دور النخب هي جزء لا يتجزأ من أزمة المنظومة السياسية، ذلك ان الحرب غيبت دور ومواقف النخبة ماعدا النخبة المنحازة والتي ترتكن للوازع الديني بالأساس، والسؤال هو هل الدولة تشمل كل الفاعلين ام الدولة هي فاعلين دون باقي المكونات؟ وهل النخبة السياسية تعلم أنها تعكس نموذجا للدولة التي تنتمي اليها؟
ان الجواب سوف يبين مسببات الإخفاقات المتراكمة والمتفاقمة.
لقد ظلت العلاقات بين الدولة والنخبة السياسية، وبين المثقف والسلطة، وبين المجتمع والقانون، وبين القبيلة والمجتمع العصري، وبين التعليم والأمية، وبين الانتخابات والتعيين، وبين الغنى والفقر، وبين التبعية والحرية، وبين الزاوية والحزب، وبين النخبة والعوام، علاقات متصدعة لم تسمح بتكريس نموذج للدولة الوطنية العصرية، مما تم معه اضعاف النخب الوطنية، إلا في حدود ضيقة.
فالمراهنة على تجويد مشاريع سياسية وسياسات عمومية تخضع للتنافس السياسي لحماية المصالح الاجتماعية وتطلعات الفئات التي تنخرط في هذه المشاريع، فاذا كان النسق السياسي يسمح بالتنافس الديمقراطي كإطار سياسي ينظم المجال العام والمؤسسات بناء على قواعد دستورية وسياسية ومنها قاعدة التعددية، والاختلاف. فإن هذه العلاقة لا تبرر باقي الاختلالات المرتبطة بالمنظومة السياسية، حيث لا ينظر إلى السياسة كمجال لإنتاج النخب بشكل طبيعي بل لكونها تعيد إنتاج نفس مكونات النسق السياسي السائد، والتي تفتقر للحرية وللتواصل الافقي ومحاكاة تطلعات المجتمع المختلفة.
فالنخبة يمكنها تحقيق الإلتقائية الكفيلة بالإجابة عن متطلبات دمقرطة المؤسسات وتحقيق الشروط الدنيا للإصلاحات السياسية المطلوبة.
صحيح ان نموذج دستور 2011 في المغرب، كرس الخيار الديمقراطي كحلقة جوهرية ضمن حلقات إصلاح المنظومة السياسية بالمغرب، غير أن معضلة النخبة السياسية ما تزال تعيق تنميط نموذج الدولة العصرية ومشروع المجتمع الحداثي في سياق تتكامل فيه أدوارها في المعترك السياسي والاجتماعي والثقافي بما يعزز المشروعية السياسية للدولة.
الدكتور احمد درداري
رئيس المركز الدولي لرصد الازمات واستشراف السياسات