أحمد مفهوم
أستاذ زائر بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بكلية الشريعة بفاس
تعتبر إمارة المؤمنين من الثوابت الدينية المغربية التي كرسها الدستور، وهو مكون أساسي في الترسانة القانونية المغربية في الماضي والحاضر والمستقبل، استمدت مرجعيتها من الكتاب والسنة والتراث الفقهي السني الإسلامي عبر التاريخ، وتقوم بوظائف هامة الدينية والدنيوية، وأهم مرتكزاتها البيعة الشرعية التي أخذها المغاربة بالاقتداء بفعل الصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حينما تم اختيار الخليفة الأولى أبي بكر رضي الله عنه. وأصبح هذا الاقتداء منهجا شرعيا مغاربيا متبعا قويما وقيما منذ مبايعتهم لأول ملوك الدول الادريسية بالمغرب الامام مولاي إدريس إلى عصرنا.
وقد أخذت إمارة المؤمنين مكانتها في صلب اهتمامات الفقهاء والمفكرين والسياسيين ورجال القانون من أجل حمايتها والمحافظة على استمرارها وتجدرها من جهة وحماية وظائفها وأدوارها وغاياتها الممتددة زمانا ومكانا.
وفي هذا الاطار يمكن طرح السؤال التالي: ما هو المقصد الشرعي لإمارة المؤمنين في اشعاع الديني المغربي ؟
وعند استقراء أدوار وغايات إمارة المؤمنين يمكن الإجابة على هذا التساؤل عبر مطلبين أساسيين:
المطلب الأول: مقاصد إمارة المؤمنين
المطلب الثاني: مقصد الاشعاع الديني للإمارة المؤمنين
المطلب الأول: مقاصد إمارة المؤمنين عامة.
إن استقراء النصوص الشرعية التي تناولت إمارة المؤمنين والبيعة الشرعية من قرآن وسنة وإجماع الأمة ونصوص الفقهاء في التراث الفقهي الإسلامي وبيان الحكم والغايات التي توحي إليها هذه الثروة النصية يبين بكل وضوح أن إمارة المؤمنين لها مقاصد ووظائف أصلية لا بد من توفرها والحفاظ على تحقيقها وأخرى تبعية تحقق الأولى وتسهم في تمكينها، ومن بين هذه النصوص:
أ ــ قال تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا
تعتبر هذه الآية الصريحة، أصل من أصول التأصيل والتأسيس والتقصيد لأحكام إمارة المؤمنين روى البخاري عن ابن عباس، قال: نزلت في عبد الله بن قيس بن عدي ، وكان به دعابة ، إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية، فأمرهم يوما أن يجمعوا حطبا ويوقظوا نارا ففعلوا، ثم أمرهم أن يدخلوها محتجا عليهم بقوله صلى الله عليه وسلم :” من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصا أميري فقد عصاني” فلم يستجيبوا له ، وقالوا له : إنما آمنا وأسلمنا لننجو من النار، فكيف نعذب أنفسنا بها، وذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال :” لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف”
والمقصود بها: الإمامة العظمى أو الخلافة أو إمارة المؤمنين كلها تؤدي معنى واحدا، في شريعتنا الغراء، فهي الرئاسة العظمى والولاية العامة الجامعة القائمة بحراسة الدين وسياسة الدنيا. فهو خليفة الله في أرضه ويسمى أمير المؤمنين وهو مصطلح ارتبط بمقومات أساسية منها:
1- الانطلاق من أن الإسلام دين ودولة،
2- له نظاما سياسيا يتميز به،
3- هذا النظام ليس مستحدثا بل هو ضارب في عمق الزمان، وقد بدأ منذ فجر الإسلام، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول أمير للمؤمنين بعد وفاة أبي بكر الذي كان يسمى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
4- الأمة استمرت على اعتبار هذا النظام على وجه الدوام واحترمته وتمسكت به لمصالحها الكبرى فيه، ومن هذا المنطلق نجد علماء الإسلام عرفوها بتعاريف متقاربة في ألفاظها، متحدة في معانيها تقريباً، علماً بأنه لا تشترط صفة الخلافة، وإنما المهم وجود الدولة ممثلة بمن يتولى أمورها، ويدير شؤونها، ويدفع غائلة الأعداء عنها.
والأمر بطاعة أولي الأمير التي تشير إليها الآية يستلزم حفظ الدين الذي هو من الكليات الخمس التي لا تقوم حياة الناس إلا بها، وحفظ الدين لن يتم إلا بحفظ الكليات الأخرى التي لا تنفصل ولا تتجزأ ( فحفظ الدين لا ينفصل عن حفظ النفس والعقل والعرض والنسل) ، وإذا كانت غاية إمارة المؤمنين هو حفظ الدين ومقوماته، فإن الحياة لا تنفصل عن الدين في المفهوم الشرعي للحياة، وقد أحسن الجويني رحمه الله حين جمع غايات إمارة المؤمنين بقوله: ( ولا يرتاب من معه مسكة من عقل أن الذب عن الحوزة والنضال دون حفظ البيضة محتوم شرعا، ولو ترك الناس فوضى لا يجمعهم على الحق جامع ولا يزعهم وازع ولا يردعهم عن اتباع خطوات الشيطان رادع، مع تفنن الآراء، وتفرق الأهواء، لانتثر النظام، وهلك العظام وتوثبت الطغام والعوام، وتحزبت الآراء المتناقضة، وتفرقت الإرادات المتعارضة وملك الأرذلون سراة الناس، وفضت المجامع، واتسع الخرق على الراقع، وفشت الخصومات، واستحوذ على أهل الدين ذوو العرامات، وتبددت الجماعات ولا حاجة إلى الإطناب بعد حصول البيان، وما يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن)
ومن خلال النصوص السابقة يمكن إجمال مقاصد إمارة المؤمنين فيما يلي:
1ــ إن إمارة المؤمنين تتناول أمور الدين وتقوم بحفظه مع سياسة أمور الحياة بما يتوافق مع تعاليم الإسلام.
2ــ السعي بتحقيق مصالح الناس وحماية حقوقهم الدينية والدنيوية.
3ــ تجتمع في إمارة المؤمنين عنصر عقدي أخلاقي ديني مع عنصر مادي ( دنيوي) لإقامة مجتمع فاضل مستقر يتمتع بالأمن والسلام والطمأنينة والاستقرار.
4ــ التآزر بين القيم الدينية والخلافية من أجل حماية المجتمع ماديا ومعنويا وتنظيم العلاقات الاجتماعية على أساس يضمن الحقوق لكل المواطنين.
وبفضل إمارة المؤمنين فالمواطنين يتمتعون بكافة الحقوق متساوون فيها، ولا يميز الإسلام واحدًا في التمتع بالحقوق، فلم يجعل منزلة أو ميزة حقًا لأفراد أسرة معينة، لا يستمتع بها سواه، بل أناط الأمر بالعمل له، ومهد السبيل لكل عامل، وجعل أفراد الأمة سواسية، لا يحول بينه وبينها نسب أو عصبية ويؤكد قوله -صلى الله عليه وسلم: “لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى ” وقوله -صلى الله عليه وسلم- لبني هاشم: “يا بني هاشم. لا يجئني الناس بالأعمال وتجيئوني بالأنساب. إن أكرمكم عند الله أتقاكم”
المطلب الثاني: مقصد الاشعاع الديني للإمارة المؤمنين
سبق القول بأن الغاية العظمى لإمارة المؤمنين هي حفظ الدين، لكن من تبعات هذه الحماية هو نشر وتمكين لمبادئه وأحكامه في كافة المجالات حتى تحقق الحياة الطيبة التي أسسها النبي صلى الله عليه وسلم في البلاد والعباد، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يلتحق بالرفيق الأعلى حتى رضي وأرضى بالحياة الطيبة وثمراتها بين الناس ، حين أتم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هذا العمل العظيم، قرب العباد من الله، وقرب الأمم من الأمم، وأثبت النصر والأخوة مكان البغضاء والعداوة، وأخرج الظلمة والجهالة لينير القلوب والعقول بنور الصدق والعلم، وهكذا رحل عن هذا العالم فارغ البال قرير العين فرحا مسرورا.
فتأسيا بالرسول صلى الله عليه وسلم نجد المغاربة عبر التاريخ متمسكون منذ الزمن الأول بما يفرضه واجب الدين من ضرورة طاعة أميـر المؤمنين بمقتضى عقد البيعة التي استمدت مشروعيتها من القرآن الكريم، وسنة المصطفى الأمين، ومن سار على هديه من كافة المسلمين. إذ بموجبها تتحقق المقاصد الشرعية، القائمة على العروة الوثقى بين الراعي والرعية، قائمة على أسس شرعية صحيحة تولى أمرها أهل العلم والورع وأقاموا أركان الدولة على ثوابت دينية، تجمع الأمة عقيدة ومذهبا ومنهجا وسلوكا، فانتشر المذهب المالكي في المغرب وامتد إلى افريقيا، وتعلقت ساكنة هذه الأرض بالعقيدة الأشعرية الوسطية التي احترمت العقل وأقامت النص وجعلت تزكية النفوس وسموها عبر التصوف السني بلا غلو ولا افراط، فشكلوا بذلك منهجا متنوعا ومستقيما يقوم على الثوابت الدينية المتينة المتفق عليها والمشتركة في الانفتاح على الآخر.
إن لإمارة المؤمنين في مغربنا الحبيب حسنات جمة لا تنكر عند المتبصرين، ومميزات تُفْرِد نظامها في العالمين، أساسها: قيامها على البيعة الشرعية، انفرادها بالصفة الدينية الجماعية، ومنتهاها إلى النسب الشريف، وقاعدتها ارتباطها بالشريعة الإسلامية السمحة، وإمضاؤها لقواعدها المقاصدية السهلة، القاضية بالتفرغ لحماية الملة والدين، والحفاظ على وحدة جماعة المسلمين، والنفي لتحريف الغالين. وانتحال المبطلين، ثم جمعت بين أمور الدين والتدين الجامعة، وبين احتياجات الدنيا الماتعة، وتجميع الأمة على اختلاف أعرافها ولهجاتها، وتأليفها على تنوع خصوصيات أقاليمها وجهاتها، وتحبيبها في المتوارث من عادات سكانها، وتمثيلها للأمة التمثيل الأسمى. التي لا يقبل المساومة عليه في الثوابت والمرجعيات، ولا يُقبل التشويش عليه فيما يخص أفراد الخصوصيات، المتوجة بالتواصي على تجديدها كلما مر عليها عام، ببيعة الكبار من خاصة الأعيان وكرام الأعلام. مع فضيلة تواصي الفضلاء بالدعاء لها في المنابر المختلفة، والتماس البركات لها بعد الصلوات المفترضة، وفي مختلف المناسبات المعلومة المرتبة، والاحتفالات المشهودة، لما يعلمون من أهمية ومقاصد إمارة المؤمنين، في قيام أمر الدين، ولما أحاط العلم به من أثرها في تأليف كلمة المسلمين، التي بها يحصل السناء والرفعة والتأمين، وقدرها في استجلاب النصر وتحقيق أسباب التمكين؛ تأسيا بأئمة السلف الصالح الذين جعلوا نفع الناس من أجل القربات التي ينفع بها الوجود،
وفي الختام أأختم بقول أمير المؤمنين الملك محمد السادس نصره الله في نطقه السامي، وما أفاده نصه المؤسس ببيانه القاصد المتعالي عندما قال: . . . فإن للمواطنة الكاملة، التي ننشدها لكافة المغاربة، مرجعياتها الدينية والوطنية التاريخية، المتمثلة في الإسلام والملكية والوحدة الترابية والديمقراطية. فالإسلام السني المالكي، المعتدل والمنفتح، الذي ظلت إمارة المؤمنين ساهرة على حمايته، ونقاء عقيدته السمحة، مع ضمان حرية ممارسة الشعائر الدينية، قد شكل، عبر العصور، البوتقة التي انصهرت فيها كل مكونات الهوية الوطنية، الموحدة، الغنية بروافدها الحضارية المتعددة. وبقدر تمسكنا بما يميز الملكية المغربية من مشروعية دينية ودستورية، وروح شعبية، ووطنية تاريخية؛ فقد ارتقينا بها، إلى ملكية مواطنة، من خلال ما حققناه من تطور ديمقراطي، وعمل تنموي، وتحرك ميداني.
ومن دلالة هذا المقصد الشرعي لإمارة المؤمنين تحقق في عهد جلالة الملك محمد السادس حفظه الله وأعز أمره في المجال الديني مايلي :
-إحداث الهيئة العلمية الملكية للإفتاء.
-إعادة هيكلة المجلس العلمي الأعلى والمجالس الجهوية العلمية المحلية.
-إعطاء الانطلاقة لإذاعة محمد السادس للقرآن الكريم والقناة السادسة.
-إحداث منصة للحديث الشريف وجائزة محمد السادس لأهل الحديث.
-استحداث معهد محمد السادس للقراءات والدراسة القرآنية، جائزة محمد السادس للطفل الحافظ للقرآن الكريم.
-جائزة محمد السادس لأهل القرآن.
-جائزة محمد السادس الدولية في حفظ القرآن الكريم وترتيله وتجويده وتفسيره.
-جائزة محمد السادس الوطنية في حفظ القرآن الكريم وترتيله وتجويده.
-جائزة محمد السادس للفكر والدراسات الإسلامية، جائزة محمد السادس للكتاتيب القرآنية.
-معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات.
-إعادة تنظيم جامعة القرويين، مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة.
-تدشين مرحلة جديدة من الإصلاح الديني بإطلاق خطة رائدة هي ميثاق العلماء باعتبارها نموذجا للتوعية والتنويـر.
.
من خلال هذه الأعمال الجليلة الخاصة بمجال الدين يتضح أن أمير المؤمنين صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله ومند اعتلائه عرش أسلافه الميامين، يحرص على إقامة تعاليم الدين السمحة ويقدم خدمات جليلة لحفظ ثوابت الدين الإسلامي في كافة الميادين ، ويرسم صورة منقطعة النظير في الاعتناء بمصادر الوحي من القرآن الكريم والسنة النبوية وعلومهما.