الدار البيضاء في احتفاء فكري بذاكرة فن القول
بقلم سمير السباعي
تعيش مدينة الدار البيضاء هذه الأيام لحظة احتفاء وطني بالفن الغيواني من خلال فعاليات المهرجان الوطني لظاهرة المجموعات في دورته الثانية، والذي تنظمه مقاطعة الحي المحمدي بشراكة مع عدد من المؤسسات العمومية والخاصة تحت شعار ” ظاهرة المجموعات التاريخ والمسار والأنماط” في الفترة ما بين 21 و 29 غشت 2023 بعدد من الفضاءات الثقافية بالمنطقة.
صحيح أن برنامج هذا الحدث الثقافي يتضمن تنظيم عدد من السهرات الغنائية التي يلتقي فيها الاحتفاء بأغاني الرواد المؤسسين للفن الغيواني بإبداعات الفرق الشبابية الحالية التي تمتح من نفس المعين الفني، لكن حسب أغلب الإعلاميين والمهتمين بهذا التراث الشعبي الغنائي فتنظيم ندوات فكرية تقارب هذا الأخير انطلاقا من مداخل متعددة يعتبر لحظة مهمة داخل المهرجان ليس فقط لاستنطاق الذاكرة وإنما لطرح السؤال الفكري الذي يناقش في العمق جوانب من سياقات ودلالات الإنتاج الفني في الموروث الغيواني.
ضمن هذا السياق عرفت الخزانة البلدية بالحي المحمدي مساء يوم الأربعاء 23غشت 2023تنظيم لقاء فكري بعنوان ” تأثير فنون القول في الغناء المجموعاتي” من خلال تسليط الضوء على التجربة النظمية للراحل الفنان محمد باطما.
اعتبر عبد لوغشيت مدير هذه الدورة من المهرجان ومسير اللقاء أن شرط المناسبة دفع باختيار التراث المكتوب للراحل محمد باطما وجعله أرضية مرجعية لمناقشة جوانب من تأثيرات فنون القول في الغناء المجموعاتي الذي طبع الفن الغيواني، في احترام تام لباقي التجارب النظمية التي أسس لها الرواد الآخرون.
يبقى أهم ما يمكن تسجيله في مداخلة عبد الرحيم باطما شقيق الراحل بصفته تربوي و شاعر والذي سبق و تكلف بتجميع عدد من قصائد الراحل الزجيلية في كتاب خاص، عبارة عن مقاربة خاصة لمسار الراحل محمد باطما الزجلي بنفس شعري حاول من خلالها أن يرصد أهم المحطات التاريخية التي ساهمت بشكل أو بآخر في صناعة تجارب محمد باطما خاصة عند الحديث عن تفاعل الراحل منذ طفولته المبكرة مع زخم القول و الحكي الذي كانت تنطق بهما روابي الشاوية و ضفاف أم الربيع كفضاءات عيش عانقهما في صباه بشكل أنتج نزعة لديه قدرة أصيلة على التناغم مع أصوات الطبيعة لاقتناص الدهشة، القادرة على توليد كل تجليات الإبداع حسب تعبير المتدخل نفسه. كل هذا في تناغم كبير مع قضايا الإنسان والمجتمع عبر عدد من المواضيع كالعتاب والعشق والزهد من خلال جعل الكلمة الهادفة محور كل نظم زجلي أبدعه الراحل محمد باطما ليخاطب به أسماع ووجدان المتلقي مهما كان مستوى تلقيه لهذا الخطاب الغنائي أو ذاك سواء كان من أداء المشاهب أو غيرها.
في المقابل فإن ما يمكن رصده في كلمة حسن حبيبي الإعلامي والأكاديمي المهتم بالفن الغيواني في هذا اللقاء الفكري هو محاولة المتدخل نفسه مناقشة المتن الزجلي لمحمد باطما بنفس تحليلي و نقدي أكد من خلالهما على ضرورة استحضار ما أسماه بالشرط الإنساني الواقعي الذي جعل منه الزجال الراحل موجها لمختلف كتاباته مثل ما هو واضح في قصيدته الزجلية “النسر”، مشيرا في نفس الآن إلى أن المناخ النظمي البدوي الذي نشأ فيه محمد باطما إلى جانب تأثره بالأحوال الإنسانية المتعددة داخل المجتمع قد منحه مصادر حية للكتابة الزجلية ذات النفس الشاعري الأكيد و التي عبرت عن عمق تجربة الرجل الوجودية حتى وإن كانت مغادرته لهذا العالم كانت مبكرة نسبية وهو لم يبلغ بعد عقده الخامس.
ولا ننسى أن حسن حبيبي اعتبر أن محمد باطما حاول خلال مساره أن ينوع من قنوات الإرسال الممكنة لنظمه، حسب خصوصية كل متن وتجربة طالما أن إيقاعات فرقة المشاهب ومقاماتها الموسيقية لم تكن تسمح له دائما، بالتعبير الحر و المنطلق عن آهاته الزجلية. معتبرا في ذات الحين الإرهاصات التي سبقت رحيل الفنان العربي باطما إلى حدود وفاته قد تركت بصمتها بشكل واضح، في ما خطه محمد باطما من نظم عامر بالأسئلة القدرية حول هذا الوجود والموت مثال ذلك قصيدة “ياشاطني وشاغل بالي ” التي صدحت بها حنجرتي الراحلين معا. وقد كان ختام الندوة عبارة عن تفاعل لبعض الحضور من الإعلاميين و المهتمين بالتراث الغيواني الذين حاولوا التناغم مع موضوع هذه الجلسة الفكرية مثل تأكيد البعض على ضرورة دمج المتون الزجلية للرواد في المنظومة التربوية والأكاديمية ضمانا لدراستها استمرارية أصول الكتابة فيها لصالح الجيل الحالي.
أو من خلال دعوة لبعض الآخر إلى تشكيل قاعدة توثيق لهذا التراث على شكل منصة رقمية تكون قادرة على التعريف به و تثمينه، خصوصا أن اللجنة المنظمة لهذا المهرجان وعدت بإنتاج كتاب ورقي خاص بالمسألة.