لقاء فكري بالدار البيضاء يرصد آفاق توظيف “المتن الصحفي” في البحث التاريخي

بقلم سمير السباعي

playstore

تطرح علاقة الكتابة الصحفية بالبحث التاريخي في المشهد الإعلامي و البحثي ببلادنا نقاشا فكريا واضحا خاصة حول نقاط التلاقي و التلاقح الممكنة بين هذين الحقلين، إضافة إلى هواجس الخصوصية و حدود التمايز التي يمكن رصدها بين المجالين. ضمن هذا السياق احتضنت كلية الآداب و العلوم الإنسانية ابن مسيك بالدار البيضاء، يومه الخميس 08 فبراير 2024 على الساعة العاشرة صباحا لقاء فكريا تكوينيا حول موضوع “توظيف المتون الصحفية في البحوث التاريخية: الإمكانات المعرفية و التوظيف المنهجي” من تقديم الدكتور الأستاذ مصطفى الريس، وذلك في إطار الأنشطة التكوينية التي يشرف على تنظيمها مختبر العالم و المغرب الخارجي التابع لنفس الكلية المذكورة. و قد شكلت هذه الجلسة الفكرية التي أدار أشغالها الدكتور و الباحث يوسف الزيات بمشاركة تفاعلية و عضوية من طرف الدكتور الأستاذ خالد سرتي مدير المختبر المذكور، مناسبة حاول من خلالها الباحث مصطفى الريس مناقشة ممكنات إنتاج بحث تاريخي اعتمادا على المنجز الصحفي خاصة في أجناسه المكتوبة. حيث حاول الريس التأكيد في بداية درسه على أن الحديث عن وجود فعل صحفي داخل المغرب في تاريخيته لم يكن ممكنا تسجيله إلا في أواخر القرن التاسع عشر، نظرا لأن البنية الاجتماعية و و الثقافية و السياسية في بلادنا لم تكن تسمح تاريخيا بإنتاج هذا النوع من الممارسات التواصلية، خصوصا مع انتشار معطى الأمية و محدودية هوامش المشاركة و الفعل الجمعي في تدبير الشأن العام في بلادنا. على عكس التجربة الأوروبية التي أسست تراكما تاريخيا من الممارسة الجمعية لحرية التعبير و معانقة و نشر الأخبار حسب نفس المتحدث. و قد أفرت هذه الوضعية حسب هذا الأخير ظهور أشكال و أنماط مغربية تاريخية كانت معبرة عن اختيارات محلية، في التواصل و الإخبار داخل الفضاءات العمومية مثل البراح و الرقاص مع انخراط مؤسسات بعينها كالزوايا و المساجد و المدارس العتيقة في هذه العملية كفضاءات لنشر و مناقشة و تداول الأخبار بين العموم. و لم يفت نفس المتدخل في إطار هذه التوطئة التاريخية الإشارة إلى أن بداية تعرف المغاربة على الصحافة قد ظهر مع بعض الرحلات السفارية، التي قام بها بعض سفراء المخزن المغربي إلى أقطار أوروبا في إطار مهام دبلوماسية منذ نهاية القرن السابع عشر على الأقل. حيث قدمت لنا بعض المتون الرحلية لهؤلاء إشارات و تمثلات الذهنية المغربية حينها حول ما تم تسميته ب”الكاسيطة” أو “الكوازيت” كورقات كانت تدون فيها الأخبار ،التي يتم تقاسمها في مجتمع “الآخر” حدا وصل حسب التصور المخزني نشر أنواع من الدعاية و الكذب ضمن ممارسة تم نعتها بالخطاب البدعي في كثير من الوثائق المخزنية على الأقل حتى بداية القرن العشرين حسب مصطفى الريس دائما. وقد شكلت هذه الفترة التاريخية حسب هذا الأخير محطة مهمة في هذا التطور إن صح التعبير، حيث ستعرف بعض المدن في شمال المغرب ميلاد المحاولات الجنينية الأولى للفعل الصحفي ببلادنا خصوصا على مستوى ظهور بعض الجرائد، خصوصا في طنجة التي ظهرت بحكم موقعها الجغرافي كبوابة مغربية على الخارج بالإضافة إلى إرثها الدبلوماسي مؤهلة أكثر، لاحتضان أولى التجارب في هذا الباب. حيث ستختار عدد من القوى الاستعمارية إبان هذه الفترة اعتماد الممارسة الصحفية للترويج سلميا للمشروع الامبريالي على الساحة المغربية خاصة فرنسا عبر جريدة “يقظة المغرب” الناطقة باللغة الفرنسية، حسب إشارات نفس المتدخل. وقد خلفت الدعاية الإعلامية لهذه المنابر الصحفية الوليدة ردود فعل و مواقف رافضة داخل الساحة المخزنية ببلادنا، تجلت إما في قرار إيقاف صدور الجريدة السالفة الذكر في المغرب من طرف مخزن السلطان الحسن الأول نتيجة ما تم اعتباره استهداف واضح للمصاح المغربية ،و محاولة النيل من وحدة النسيج المجتمعي من خلال الترويج إعلاميا لصعوبات و تعسفات تعيش في ظلها أقليات معينة كاليهود المغاربة، أو في محاولة المخزن العزيزي الانخراط في الفعل الصحفي عبر إصدار جرائد ناطقة بلسان حال المخزن و معبرة عن وجهة النظر المغربية، مستعينا في ذلك بخبرة بعض الأقلام الصحفية القادمة من الشام. وهو ما سيساهم في صدور جريدة “لسان المغرب” التي أكد الريس أنها لم تعمر طويلا نظرا لقرار إيقافها من طرف المولى عبد الحفيظ، نتيجة المواقف التي اتخدها محرروها في ما بعد ضد السلطة المخزنية بعد عدم الوفاء بالتزامات مالية رسمية اتجاه الجريدة حسب إفادة نفس المتحدث. وقد ا عتبر الريس أن خضوع المغرب للحماية الاستعمارية في النصف الأول من القرن العشرين سيؤدي إلى التأسيس لحضور بارز للفعل الصحفي ببلادنا، سواء كممارسة ثقافية حملها المعمرون الأجانب معهم أو كقطاع استثماري واعد حظي باهتمام أصحاب الرأسمال الاستعماري. و قد برزت في هذا السياق مؤسسات إعلامية بتمويل أجنبي ظلت نشيطة في الساحة المغربية حتى السنوات الأولى من الاستقلال. وإجمالا فقد ميز الريس بين أربع محطات رئيسية ميزت تاريخ الممارسة الصحفية ببلادنا من الحماية إلى الاستقلال كانت فيها كل محطة محكومة بالسياق التاريخي المنتج لها، والذي أطرته محددات رئيسية أهمها رغبة المحتل الفرنسي توجيه و مراقبة أي نشاط صحفي داخل المغرب عبر إصدار قانون مؤطر لهذا الفعل، و أيضا ب تأثير بض الأحداث التاريخية مثل الحرب العالمية الثانية التي كان لها صداها في المشهد الإعلامي الداخلي حسب ما يستخلص من شروحات الأستاذ المحاضر. و قد أفرزت هذه الوضعية حسب نفس المتحدث شكلين من الممارسة الصحفية بالمغرب إبان فترة الحماية، الأولى كانت نوعا ما مسايرة إيديولوجيا للخطاب الفرنسي و ناطقة باسمه. أما الثانية فكانت معبرة عن ردود فعل الحركة الوطنية المغربية التي حاولت الانخراط في ممارسات صحفية مبكرة مثل إصدار جريدتي “اللواء” و “الوطن” التي راهن من خلالها الوطنيون الأوائل التعريف بالمشروع الوطني المغربي الوليد المدافع عن خصوصيات هوية المغاربة. حيث سيساهم الزخم الوطني الذي تشكل عقب إصدار إدارة الحماية في ثلاثينات القرن الماضي للظهير البربري، في إعطاء دفعة قوية للكتابة الصحفية الوطنية ذات التوجه الحزبي خاصة مع إصدار جريدتي “العلم” و “الرأي العام” لسان حال كل من حزبي “الاستقلال” و “الشورى و الاستقلال” خلال فترة الاربعينات، رغم كل أشكال التضييق التي مورست من طرف المستعمر الفرنسي حسب ما يستشف من عرض الريس. لكن ظلت هذه المنابر الصحفية الوطنية المكتوبة حسب هذا الأخير، تعاني من محدودية الانتشار في وسط قرائي شعبي تنتشر فيه نسب الأمية، بالإضافة إلى ضعف في الأداء المهني الصحفي عند أغلب أولئك المشتغلين بتلك الجرائد المرتبط أساسا بغياب خلفية تكوينية مع طغيان الخط التحريري الحزبي داخل أغلبها. عكس المؤسسات الصحفية الأجنبية الصادرة حينها بالمغرب و التي ظلت حسب نفس الأستاذ، مستفيدة من قوة التكوين الاعلامي و من الدعم المالي لإدارة الحماية. و قد أشار المحاضر في معرض كلامه إلى بعض مؤسسات و مراكز الأرشيف التي يمكن أن يجد فيها الباحث في التاريخ، أرصدة مهمة من الجرائد و المجلات التي تعود لفترات و سنوات متعددة خاصة ذات الصلة بالزمن الراهن مثل الخزانة الوطنية بالرباط و مكتبة المجموعة الحضرية بالدار البيضاء، مع الإشارة لبعض الأرشيفات الإلكترونية في هذا الباب كأرشيف مكتبة الكونغرس الأمريكي. و قد حرص مصطفى الريس مقاربة ممكنات توظيف الباحثين في التاريخ، للمتن الصحفي كمادة وثائقية من خلال دعوته لهذه الفئة إلى ضرورة استحضار الخصوصية التي تطبع الكتابة الصحفية نفسها، والتي تجعلها تتميز بخصائص معينة سواء على مستوى الشكل أو المتن يميزها عن باقي أشكال الكتابة المعروفة مثل الرواية. علما أن جدلية الذاتي و الموضوعي كانت حاضرة بدورها في هذا المستوى من التحليل عند الريس، و ذلك عند تأكيده على أهمية ضبط الباحث في التاريخ لأهم أنواع أجناس الكتابة الصحفية، و هوامش تداخل تداخل الذاتي و الموضوعي فيها سواء في المقال التحليلي أو المقال ذي الصبغة الإخبارية أو غيرها. أما عن مساحات التلاقي و التنافر الممكن تسجيلها في إطار الحديث عن العلاقة بين الصحفي و المؤرخ، فقد حاول مصطفى الريس رصد المواقف المسجلة إلى حدود الآن حول هذا الموضوع والتي تتباين بين من يعتبر أن هناك صعوبة في اعتماد المادة الصحفية المكتوبة كمادة لكتابة التاريخ، و بين من يعتبر أن هناك جسور من التقاطع و التكامل بين الكتابة الصحفية و البحث التاريخي. فبالنسبة للطرح الأول، اعتبر الريس أن كثيرين لازالوا يعتبرون الصحافة على الأقل في شقها المكتوب غير قادرة على تقديم الزخم الوثائقي المطلوب بالنسبة للمؤرخ، طالما أن الحضور المفرط حسب البعض لعناصر في الكتابة الصحفية مثل ذاتية الصحفي المحكوم بهاجس الخط التحريري و الرغبة في التفاعل الإعلامي اللحظي مع الأحداث و الأخبار بما يلبي متطلبات المقروئية الفورية، مع عدم حضور تقليد الكشف عن مصادر الخبر في الممارسة الصحفية المكتوبة يجعل من الصحافة، بالنسبة لهذه الفئة غير مؤهلة عمليا لتكون مادة وثائقية للمؤرخ. و الذي يظل محكوما هو الآخر بشرطية المسافة المنهجية الازمة لقراءة الأحداث و السياقات، و إعادة بناءها في عمقها الزمني المنتج لها مع صرامة كبرى في توثيق مصادر الخبر ضمن نظرة شمولية من التحليل حسب ما جاء في قراءة مصطفى الريس طبعا. في حين يرى آخرون حسب نفس المحاضر أن التقاطع المثمر بين الفعل الصحفي و عمل المؤرخ جسوره قائمة بقوة، ذلك أن الصحافة تمكن الباحث في التاريخ من مساحات بحثية واسعة و غنية بالمعطيات التي يستطيع الصحفي إنجازها بشكل يومي أو أسبوعي، عبر خط تراكمي من التدوين يسمح للمؤرخ البناء عليها كحصيلة وثائقية قابلة للاستثمار. و لا ننسى أن نفس المتحدث قد أكد أن منهج الصحفي نفسه و طريقة تفاعله مع الأخبار، تجعل منه مؤرخا للحظة المتفاعل معها. ما يسمح بإيجاد تكامل بين عمل المؤرخ الذي يظل هاجسه الأول هو دراسة الإنسان في الزمن، وعمل الصحفي الذي يسعى إلى الإمساك بالحدث أو الخبر في لحظيته، بغض النظر عن جدلية الذات و الموضوعي التي تظل إكراها منهجيا تطرحه طبيعة الكتابة الصحفية نفسها حسب تحليل المتحدث. ومن الملاحظ أنه و حسب هذا المستوى من تفسير مصطفى الريس فإن حصر المدة الزمنية التي يشتغل عليها الباحث في التاريخ، تجعل هذا الأخير قريبا في عمله إلى منهج الصحفي بينما نزوع هذا الأخير إلى توسيع الامتداد الزمني المرصود إعلاميا تجعل منه قريبا في اشتغاله إلى حرفة المؤرخ. و قد حرص الريس التأكيد أيضا على أن الصحافة تظل قادرة على صون أخبار التاريخ، و تقديم مواد إعلامية يستطيع من خلالها المؤرخ رصد و قياس مواضيع ذات الصلة أساسا بدراسة الذهنيات و العادات و التقاليد و دراسة بعض المواقف الجمعية في تاريخيتها. و قد احتلت الخطوات المنهجية الأساسية لتوظيف الخطاب الصحفي في كتابة التاريخ، حيزا مهما في عرض المحاضر، الذي اعتبر أن المؤرخ ملزم بالإجابة على أسئلة تتعلق بمعرفة المنتج للخطاب الموظف و الفئة المخاطبة و موضوع الخطاب الإعلامي، مع تحليل السياق الاجتماعي و التاريخي و الفضاء الجغرافي الذي أنتج هذه الكتابة الصحفية أو تلك. مع اتباع المنهج المقارناتي للمواد الإعلامية المشتغل على تحليلها و دراستها لرصد أقصى درجة الصدقية فيها بل و ملائمتها حسب تفسير المحاضر حتى مع وثائق أخرى غير صحفية. وقد ثمن الدكتور خالد سرتي في كلمة تعقيبية له مضامين هذا الدرس التكويني للدكتور مصطفى الريس، داعيا الباحثين في التاريخ إلى الانفتاح أكثر على الأرشيف الصحفي لما يضمنه من فسحات بحثية جديدة خاصة أن المتون الصحفية، تظهر حسب سرتي ناطقة أكثر بما هو تاريخي توثيقي مقارنة مع أجناس كتابية أخرى كالفقه و أدب النوازل و الشعر. شريطة أن ينخرط الباحثون المعنيون في منظومة العمل الجماعي على شكل فرق بحثية. وقد حاول عدد من الحضور التفاعل مع ما جاء في عرض الباحث مصطفى الريس حيث نحاول هنا التفاعل مع بعض من ما جاء فيها حسب ما تسمح به مساحة هذه المتابعة، حيث طرح الإعلامي و الباحث في التاريخ ياسين الكويندي ملاحظة بخصوص ضرورة الحديث عن كتابة صحفية عوض المتن الصحفي، الذي تنعدم فيه العناصر الموجودة غالبا في المتون خاصة على مستوى الهوامش و الحواشي. علما أن نفس المتدخل قد أكد على أن الحضور البارز للذاتية و الإديولوجيا داخل الخطاب الصحفي المكتوب، تدفع باتجاه ضرورة انفتاح المؤرخ على أنماط صحفية أخرى خاصة المرئية منها، والتي تتميز بدرجة موثوقية أكبر حسب نفس المتدخل خصوصا و أن السياق الإعلامي العام يشهد حسب رأي، حاليا تراجع تأثير الفعل الصحفي المكتوب أمام سلطة الصورة، حسب ما يستخلص من إفادة نفس المتدخل. و لم يفت هذا الأخير الإشارة إلى أن التمايز بين البحث التاريخي وباقي التخصصات سيظل قائما، دون إغفال وجود إمكانية توظيف المؤرخ للمنجز الصحفي المكتوب بشرط أن يرتبط الأمر بأجناس معينة كالاستقصاء و الاستطلاع حيث تحضر هنا ما سماها الكويندي بالمسحة التاريخية الموضوعية داخل هذا النوع من الإنشاء الصحفي. مؤكدا في هذا الإطار أن الصحفي حسب ما بين الأستاذ عبد الله العروي فإنه ينسج عبر الخبر اللحظي الآني مادة التاريخ الأولى، التي يناقشها المؤرخ و يعيد من خلالها بناء الحقيقة الصحفية نفسها بعمق زمني واضح في التفسير. في حين فضل الباحث سعيد نسيوي التأكيد على أهمية الانتباه إلى المبالغة التي أصبحت قائمة عند كل حديث عن تلاقح بين ما نسميه العلوم المساعدة و بين التاريخ الذي ينزع أكثر إلى الاشتغال على الوثائق، مع إشارته إلى ضرورة الالتزام بضوابط معينة أثناء اشتغال الباحث في التاريخ على الصحافة. أما الباحثة جميلة هاروش فقد طرحت في تدخل لها سؤال إمكانية إنتاج أطروحات بحثية حقيقية حاليا في بلادنا، يمكن فيها الاعتماد أساسا على الأرشيف الصحفي الذي اعتبرت الولوج إليه أكثر سهولة مقارنة مع باقي الوثائق. في حين اختارت الباحثة منى بنداود طرح إمكانية إجراء تماثل بين الآداب السلطانية التي أنتجت في العصر الوسيط و بين الكتابة الصحفية حاليا طالما أن المشترك بينها حسب رأيها هو حضور عنصر التوجيه و التأثير في الكتابة. و تبقى الدعوة مفتوحة لرصد أقصى آفاق التكامل الممكنة عمليا بين البحث التاريخي و الفعل الصحفي بما يخدم إنتاج معرفة تاريخية شاملة، تثمن الخطاب الصحفي و تستثمره في عملية التأريخ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

playstore
زر الذهاب إلى الأعلى