د.احمد درداري
إن العنوان الذي جاء في مذكرة محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الجعفري الفاسي الفهري : انتحار المغرب الأقصى بيد ثواره: يعتبر نموذجا من الكتابات السياسية في مطلع القرن العشرين، ويذكرنا بالتيارات السياسية الدولية التي تأثر بها المغرب، ونحن نعيش ظروفا دولية متشابهة، حرجة ومقلقة، وبيئة إقليمية سياسية مضطربة تتقاطع فيها انطباعات الدول والشعوب و تحاصر فيها الرغبات و المواقف الوطنية، وتخضع معها الدول للضغوط التي تعري التعارض بين مصالح الشعوب ومواقف الحكام في كثير من القضايا. وهذا ما يمكن معه ان يؤدي إلى وقوع اضطرابات وتصدع في بنية الدول، و مذكرات الحجوي تستحق ان تكون مرتكزا سياسيا لتجنب البلاد الأخطار المهددة، ذلك ان امكانية تكرار نفس الموجة على غرار تيار الربيع العربي، امراً يبقى واردا، وعليه فإنه من الأجدر استيعاب أسوء سيناريوهات المرحلة طبقا لحجم المطالب الاجتماعية التي رفعت في عدد من الدول العربية في بيئة سياسية طبعها القمع والاختلافات المذهبية والدينية والتوجهات السياسية المختلفة، والتي اجتهدت على اثرها قنوات إعلامية وعملت على تضخيمها. لكن المغرب تفطن للأزمة و استلهم مقاربة سياسية ذكية لمواجهتها بفضل حكمة وتبصر الملك محمد السادس. حيث تجاوب بسرعة ملقيا خطاب 9 مارس التاريخي، والذي رسم من خلاله مشاريع إصلاحية اعتبرت ملامح لملكية دستورية ثانية، خصوصا إزاحة مقاربة القمع واتباع طريق الإصلاح وفتح باب النقاش العمومي التشاركي حول مختلف القضايا الوطنية والترابية وإشراك المواطن في الحياة التنموية. فتم اعتماد ورش الجهوية المتقدمة وإجراء تعديل دستوري شامل يستند على مرتكزات أساسية وهي: دسترة الأمازيغية كلغة وطنية مع تكريس الهوية المغربية بتعدد روافدها الثقافية، و إرساء دولة الحق والقانون، و الارتقاء بالقضاء كسلطة مستقلة، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، و اختيار رئيس الحكومة من الحزب الأغلبي مع توسيع مهامه التنفيذية، وتكريس دور المعارضة والمجتمع المدني وتوسيع اختصاصاتهما، و تخليق الحياة العامة وربط المسؤولية بالمحاسبة، و تثمين دور هيئات الحكامة وحقوق الإنسان…لكن بعد دستور 2011 ومع مرور حوالي 15 سنة على هذا الخطاب التاريخي، تبين ان الحكومات أهدرت نسبة مهمة من الزمن التنموي في النقاشات السياسية التافهة، واجتهدت في إضعاف ادوار الدولة الاجتماعية، بينما تعاطت للأنشطة الثانوية المكلفة، و نرى اليوم رغم النتائج المهمة على مستوى، الاستقرار و الأمن، ونجاح مشاريع كبرى مهيكلة… فقد استمرت مؤشرات الازمة الاجتماعية التي تعكسها علاقة الادارة والخدمات والتنمية بالمواطنين، وهو ما يدل على وجود تقصير لافت في تركيب السياسات العمومية وإبعادها عن المفاهيم الدستورية المؤطرة لها، وكأن الدستور يعيش بدون دستورين أو إن الديمقراطية جاءت لغير الديمقراطيين، مما يتطلب معه مراجعة عميقة للمسؤوليات، والانتقال إلى ملكية ثالثة المعنونة بمغرب السرعة الواحدة، وتقوم على تمتين أسس الدولة ومراجعة أدوارها الاجتماعية والاقتصادية، وتنميط عمل الحكومة و القضاء على الفساد الانتخابي وغيره بجميع مؤسسات الدولة.والأمر لا يتوقف فقط على إصلاح القوانين الانتخابية بالمغرب، بل يجب مراعاة قيمة ومكانة المواطن ضمن متطلبات التحديث ورهانات الديمقراطية التمثيلية لمغرب السرعة الواحدة بدلا من مواطنين متفاوتي السرعتين. وفك الارتباط بين الأمية والفقر ضمن العملية السياسية المقبلة ترشيحا وتصويتا.ذلك ان الحديث عن الانتخابات كمدخل للعملية الديمقراطية و شرعية عمل المؤسسات المنتخبة يبقى بعيد عن الإدراك السياسي الجاد والمسؤول، مادامت قواعد التنافس السياسي و تكافؤ الفرص تتحكم فيهما عدة عوامل ذاتية، وتجعلها غير ممكنة التنزيل بسبب عقلية الفاعلين الحزبيين المتاجرين باسم الدولة بالمواقف السياسية وبيع التزكيات و الزبونية في التوظيف في المناصب، والمراهنة على المقايضة السياسية، مما يبقي على الأفق المحدود للعلاقة بين الناخبين والمنتخبين، وهو ما يجد دليله في طبيعة الديمقراطية التمثيلية المتبعة، إضافة إلى استغلال النفوذ الحزبي كالتصرف بمنطق المصلحة الشخصية بدلا من المصلحة الوطنية المشتركة. كما أن نمط الاقتراع يبقى من بين آليات قصور المنظومة الانتخابية الذي يكرس أزمة الثقة في المؤسسات المنتخبة و غير منصف سياسيا لجميع الاحزاب، حيث يسمح باضعاف أحزاب قوية ويقوي احزاب ضعيفة، اما عبر تزوير العملية السياسية او عن طريق الفساد الانتخابي.ورغم الإصلاحات المتعاقبة على القوانين الانتخابية منذ التجربة البرلمانية الاولى في ستينيات القرن الماضي، وصولًا إلى آخر تعديل مرتبط بالانتخابات التشريعية لسنة 2021، فان التعاطي السياسي ما يزال غير مشرف وغير مقنع ولم يرقى إلى مستوى النضج المطلوب. وظل سؤال إصلاح القوانين الانتخابية بالمغرب مطروحًا بإلحاح في مختلف المحطات السياسية، حيث تتداخل فيه الأبعاد الدستورية والسياسية والاجتماعية. ذلك ان دستور 2011 وما حمله من مقتضيات ترسخ الخيار الديمقراطي كأحد الثوابت الدستورية للبلاد، حدد الرهان الأكبر في جعل العملية الانتخابية مدخلًا رئيسيًا لتجديد النخب وتعزيز الثقة في المؤسسات. غير أن النقاش العمومي والبحث الأكاديمي على حد سواء سجلا استمرار مجموعة من المعيقات، أبرزها ضعف المشاركة السياسية، وإشكالية التقطيع الانتخابي، والتحكم وبيع التزكيات الحزبية، واستمرار ظواهر الفساد الانتخابي ناهيك عن العوامل السوسيولوجية الانتخابية، ناهيك عن التعبير السياسي خارج اطارات مؤسساتية ودون مراعاة عدد من الضوابط التي يجب ان تكون معيارا للتعبير السياسي والقانوني للنقاش العمومي، حيث يبقى محفوف بمخاطر وله سلبيات ويمكن ان يكون مفتاحا للأزمات وليس لحلها، وعليه فان هناك مجموعة من النقط السلبية يجب تداركها وهي :- تباعد الرؤية الملكية عن العمل الحكومي، حيث نجد الخطب الملكية تصب في مغرب التنمية والازدهار والامن والاستقرار، والرغبة في النهوض بأوضاع المواطنين وإدخال المغرب إلى نادي الدول الصاعدة… بينما الحكومة تقوم بعمل تصطدم من خلاله بشكل مستمر مع حقوق المواطن واهمال حياة المواطنين الاجتماعية والاقتصادية، – الاحتجاج الذي يظهر بين الفينة والأخرى بسبب الفساد او إهمال السياسيات الاجتماعية كالصحة والتعليم والتشغيل … هو عربون على غياب التناغم بين رؤية الملك وعمل الحكومة، وكأن الحكومة تعارض رؤية الملك حول كيفية ادارة قضايا المواطنين بدلا من ان تكون حكومته وموالية له وتأخذ بتوجيهاته، مما يمكن معه القول أن افتعال الأزمة بطريقة أو بأخرى يبقى احتمال مطروحا.- غياب الوظائف المنبرية للأحزاب السياسية بسبب ضعف مستوى النخب السياسية، او تراجعها للوراء، وتحويل بعض المواطنين والمؤثرين إلى متبريي التحريض او الداعين إلى الاحتجاج دون اية ضمانة للحفاظ على الأمن.- وجود حالة من التربص بالمغرب عبر وسائل التواصل الإجتماعي بسبب عدد من القضايا الإقليمية والدولية، والتركيز على السلبيات لشحن الرأي العام الوطني، بهدف إفساد العلاقة بين مكونات الدولة والمجتمع والغاية هي إرجاع البلاد إلى مربع الأزمة واحباط محاولة الصعود.- تآكل الثقة في السياسيين الذين يتعاطون للفساد علانية انطلاقا من ان المصلحة العامة لا تفيدهم في شيء ما عدى التعب وصرف أموالهم من جيوبهم، كما ان المواطن مصدر عبء عليهم، إضافة إلى ان الإفلات من محاسبة السياسيين مضمون وكأن الحقل السياسي هو حقل السيبة وشبيه بوجود أجانب لهم نفوذ في دولة اجنبية لا تقدر على فرض قوانينها عليهم.- السياق الدولي المضطرب وكثرة وسائل ادارة النعرات بسبب مواقف سياسية او حتى بسبب مواقف الشعوب نفسها التي يمكنها ان تكون سببا في الانتقام منها و الزج بها في دوامة من المشاكل الداخلية.- سكوت النخب عن ما يعرفه الواقع من أحداث وتطورات و عدم المساهمة في التعاطي إعلاميا وسياسيا وأكاديميا. وهو سكوت يحسب احيانا لصالح تآمر المتربصين كالرغبة في تحقيق ازمة اعمق.ان الظرفية التي يمر بها العالم وما لها من تأثير على الدول لا يمكنها ان تستثني اية دولة، مما يجب معها اخذ جميع الاحتياطات الضرورية، ومواكبة رياح التغيير ورصد تربص الاعداء الذين يركبون على مشاكل الدول لدفعها نحو الهاوية. كما ان التزامات الدولة تجاه المواطنين يجب ان تكون هي الاولى قبل اي التزام دولي لاسيما إذا تعارضا.
