مكناس تودّع الفنان محمد المصباحي في حفل تأبيني مؤثر

توفيق اجانا
في أجواء يطبعها الحزن والتأثر، نظّمت ساكنة قصبة تيزيمي، أحد الأحياء العريقة بالمدينة القديمة لمكناس، امس الجمعة، حفل تأبين مهيب تخليدًا لروح الفنان المغربي الراحل محمد المصباحي، في مبادرة رمزية عبّرت عن قيم التضامن والتآزر التي ما زالت تنبض في ذاكرة هذا الفضاء التراثي.
الفقيد محمد المصباحي، من مواليد سنة 1976 بمدينة مكناس، ظلّ طيلة حياته مخلصًا لها رغم انتقاله لاحقًا إلى مدينة سلا.
في أزقة قصبة تيزيمي، بدأت شرارة عشقه للفن، وتحديدًا لفن كناوة، تتّقد منذ نعومة أظافره.
وقد كان بين السابعة والعاشرة من عمره عندما بدأ يعبر عن ميوله الفنية، حيث أظهر مهارة استثنائية في العزف على آلة الهجهوج، وتمكن من إخراج أول شريط غنائي له في فن كناوة وهو في سن العاشرة، ما شكّل انطلاقة مبكرة لمسيرة فنية امتدت لأكثر من عقدين.
تلقى الفقيد تعليمه الفني على يد الشيخ باقْدور بيترو، أحد أعلام فن الملحون، كما تتلمذ على يد أبا حدو الذي علّمه العزف على آلة السوسان، ما أتاح له الغوص في أعماق موسيقى الذاكرة المغربية وتشكيل هوية موسيقية خاصة به.
على مدار 25 سنة من العطاء، بصم المصباحي الساحة الفنية بعدد من الأعمال التي عكست عمق التراث المغربي وتنوعه، حيث قدّم عروضًا ذات صبغة روحانية ممزوجة بنفَس شعبي عريق.
وقد تميز بأسلوب خاص في الأداء، يزاوج بين الأصالة والتجديد، وبين الصمت والتأمل، بعيدًا عن بهرجة الأضواء، متمسكًا بالبَساطة والصدق في التعبير.
وكان الفقيد يردد أثناء عروضه مجموعة من الأبيات التي تعكس إيمانه العميق وتعلقه بالله، من بينها:“بسم الله الغاني”، “مول الملك”، “أنا وجمع إخواني”، “يا رسول الله”، “أشكو بلهفة القلب”، وهي أشعار كانت من نظمه ،تنسجم مع نغمه وتُضفي على أدائه طابعًا صوفيًا متفرّدًا.
وقد عرف عنه اهتمامه بفن الملحون، وارتباطه بالطرق العيساوية والحمدوشية، حيث أبدع في نظم ألحان وكلمات تُلامس الوجدان وتربط بين ماضٍ عريق وحاضر متعطش للهوية.
رحيل المصباحي المفاجئ إثر حادثة سير مأساوية سنة 2025 خلّف صدمة قوية في أوساط معارفه ومحبيه، وترك فراغًا كبيرًا في المشهد الفني الشعبي.
وقد خلّف وراءه أربعة أبناء: ياسين، طه، يوسف وعدنان، إلى جانب شقيقته، الذين حملوا جميعًا مشاعر الحب والاعتزاز بما مثّله والدهم من قيم فنية وإنسانية.
وقد عرف حفل التأبين حضورًا لافتًا لأصدقائه، وجيرانه، وزملائه في الدرب الفني، حيث أُلقيت كلمات مؤثرة استحضرت مناقب الفقيد، وأكدت على ضرورة حفظ ذاكرته الفنية كجزء من التراث المحلي.
وتميز الحفل بروح الوفاء والتكافل التي جمعت سكان الحي في مشهد مؤثر، يعكس العمق الاجتماعي والثقافي الذي ميّز حياة المصباحي ومسيرته.
لقد رحل محمد المصباحي، لكن صوته، وعزفه، وبصمته ستبقى حيّة في الذاكرة، شاهدة على فنان عشق التراث، وخاطبه بلغة الروح، وغادر في صمت، كما عاش.الأساس الأخلاقي للمجتمع المغربي. إنها قيم تُغرس في البيوت، وتُمارَس في الأزقة، وتنعكس في المواقف، خصوصًا في اللحظات التي تُمحّص فيها الروابط الإنسانية.
مثل هذه القيم تُنعش روح التضامن الاجتماعي، وتمنح الأحياء الشعبية معناها الحقيقي، بوصفها فضاءات للتماسك والمواطنة العميقة.
وفي زمن تطغى عليه السرعة والانعزال، يبدو هذا التماسك العائلي والاجتماعي وكأنه صوت مقاومة ناعمة ضد التفتت الأخلاقي الذي يُهدد نسيجنا المجتمعي.
إن ما قامت به ساكنة الحي هو رسالة موجهة إلى المدن، وإلى الأحياء الشعبية التي كانت تُعرف بتماسكها، لكنها بدأت تفقد تدريجياً روحها الجماعية. لقد أعاد أبناء تيزيمي التأكيد على أن الحي الشعبي ليس مجرد بنايات متراصة، بل هو ذاكرة حيّة، وروح واحدة، وأخلاق مشتركة.
لقد غاب محمد المصباحي جسداً، لكنه كان حاضراً في كل تفاصيل التأبين: في العيون التي بكت، وفي الأيادي التي صلّت، وفي الأصوات التي ردّدت كلماته وألحانه.
لكن الأهم من كل ذلك، أنه أعاد إلينا، ولو للحظة، الإيمان بأن القيم لا تموت، بل تنام أحياناً، وتحتاج فقط إلى من يوقظها… وتيزيمي فعلت.