صحة

الحياة المدرسية وسؤال التربية على القيم.


الحياة المدرسية : تعدّ القيم بوصلة التفكير والتدبير الإنساني، فهي معالم ناظمة لعالم التصورات وموجهة لعالم التصرفات الفردية والجماعية، إذ في غيابها يحدث تيه في الوعي واختلال في الممارسة لا مثيل لهما.
إن فقدان القيم في الحياة الإنسانية يفضي إلى حتمية فقدان الذات الفردية والجمعية واضطرابها، ومن ثم فقدان التوازن المجتمعي الضروري للبقاء والاستمرار، فهي إحدى الدعامات الكبرى لاستقرار الحياة الإنسانية واستمرارها، وهي ضرورة تربوية وحضارية ملحة، وشرط لازم لتحقيق المواطنة والتنمية بشتى مجالاتها، لذلك تعد التربية على القيم مسؤولية متقاسمة تضطلع بها المدرسة، إلى جانب الأسرة ووسائل الإعلام، وباقي المؤسسات التي تؤدي وظائف التربية والتثقيف والتأطير.
إنّ الارتقاء بالتربية على القيم رسالة تربوية تفرض ذاتها بإلحاح على المجتمعات المعاصرة، غير أن الاضطلاع بها يسائل بالدرجة الأولى المنظومات التربوية، ومؤسساتها الدستورية، ويجعل مسؤوليتها مركزية في ترسيخ القيمً وتعزيز السلوك المدني، كما أنّه لا يعني ضرورة تخلي باقي فعاليات وهيئات المجتمع عن القيام بمهامها، إذ الأصل تكامل الأدوار مع اختلاف الوظائف والمواقع.
ومن هذا المنطلق فقد عُدّ مدخل التربية على القيم أساسا بيداغوجيا هاما في هندسة المنهاج الدراسي المغربي وبناء مرتكزاته الكبرى، نظرا لأهميته البارزة في الحياة المدرسية للمتعلمين، وارتباطه الوثيق بواقع المتعلم تأثيرا وتأثرا، وسعيا لتجويد مواصفات وملمح التخرج الخاص بالمتعلمين سواء على المستوى الوجداني أو العاطفي أو العلائقي .
لذلك أولت مديرية البرامج والمناهج، في إطار سعيها لتعزيز مكانة الحياة المدرسية في نسق الإصلاح التربوي، أهمية خاصة لموضوع إدماج التربية على القيم في المنظومة التعليمية، عبر وضع دفتر تحملات يسعى لإنتاج كتب مدرسية بجودة عالية على مستوى المضامين الحاملة لقيم متعددة وتهدف لترسيخ السلوك المدني وحقوق الانسان لدى الناشئة.
فما مفهوم التربية على القيم؟
وما هي مرجعياته التربوية والفلسفية؟
وماهي أليات تنزيله على واقع المدرسة المغربية؟
1.1 التربية على القيم: الإطار المفاهيمي.
1.1.1 القيم لغة:
عديدة هي تعريفات القيم في اللغة، وإن كان جميعها يُشير إلى الأمور الآتية:
الثبات والدوام والاستمرار.
قيمة الشيء وثمنه.
إعطاء الشيء حقه.
وهكذا يتضح أنّ للقيمة في اللغة صفتين لازمتين إحداهما المعيارية؛ فهي معيار لتقييم الأمور وقياسها، وثانيهما الثبات؛ فهي مما يرسخ في الوجدان والسلوك ويتمسك به.
2.1.1: القيم اصطلاحا:
كثيرة هي التعاريف الاصطلاحية التي حاولت تحديد الإطار المفاهيمي للقيم وفيما يلي ذكر لبعضها:
تعرف القيم باعتبارها:” مجموعة المبادئ والقواعد والمثل العليا، التي يؤمن بها الناس ويتفقون عليها فيما بينهم، ويتخذون منها ميزانا يزنون به أعمالهم ويحكمون بها على تصرفاتهم المادية والمعنوية .”
القيم مبادئ عامة وموجهات أساسية يقيس الفرد في ضوئها الأفكار والمبادئ والقواعد السائدة في المجتمع، فيقبل ما يتوافق وهذه الموجهات ويرفض ما يخالفها. وتتميز القيم بطابعها الايجابي بالنسبة لمجتمع معين، فلكي يكون السلوك مقبولا اجتماعيا ينبغي أن يتوافق معها، كما ترتبط القيم بواقع الحياة اليومية ارتباطا وثيقا، فهي نتاج تفاعل مستمر بين الفرد والمجتمع الذي يعيش فيه، وهي أنواع، فقد تكون اجتماعية أو دينية أو فلسفية أو مادية أو مرتبطة بالعمل أو بالجمال.”
من خلال هذه التعاريف، وغيرها، يمكن تحديد الإطار المفاهيمي للقيم من خلال ذكر بعض مميزاتها فيما يلي:
المعيارية: إذ هي معايير للقياس والحكم على الشيء.
الثبات: فهي صفات لازمة لمن اتصف بها يصعب عليه التخلي عنها أو تجاوزها.
التأطير والتوجيه: فهي موجهات توجه وعي وسلوك الإنسان الفردي والجمعي أثناء النظر إلى الأمور.
الإيجابية: إذ هي صفات إيجابية تنمي جوانب الخير والصلاح في الإنسان فردا وجماعة.

2.1: القيم والتربية أية علاقة؟
مما لا شك فيه أنّ القيم تتشكل في الوعي والوجدان قبل أن تتجسد في السلوكات والأفعال، وتتأسس في عالم التصورات قبل أن تنعكس في واقع التصرفات، لذلك فتنميتها في الإنسان تحتاج إلى تنشئة وتربية وتأطير، ففي أفق التأسيس لمجتمع متماسك بأفراده، تبدو الحاجة ماسة إلى نسج علاقة ترابط وتلازم بين القيم والتربية، ذلك أنّ ” القيم تشكل مبادئ ومعايير متقاسمة لتوجيه المفاهيم والتمثلات والأحكام والتقييمات والسلوكات والمواقف والاتجاهات والمسوغات التي يتم إضفاؤها على الفكر والممارسة والسلوك. وتشغل موقع المرجعيات المؤطرة والموجهة لغايات العيش المشترك. كما ترتبط بسيرورة الواقع البشري وبدينامية المجتمعات وتحولاتها.
إذن فارتباط التربية بالقيم هو ارتباط الوسائل بالغايات والنتائج بالمقدمات، إذ القيم غايات يسعى إلى ترسيخها النموذج التربوي المغربي، والتربية وسيلة بلوغ هذه الغايات وطريق ترسيخها في وعي وسلوك الفرد والجماعة، وإنّ كل مشروع تربوي لا ينشد القيم غايات له يولد ميتا، إذ الاستثمار الحقيقي في الرأسمال البشري يتحدد في ملمحه الكبير في الاستثمار في البعد القيمي والأخلاقي، وتلعب التربية من خلال الإطارات القيمية المؤسسة لها (مدرسة، مسجد، أسرة، جمعيات مدنية….) دورا هاما في عملية الاستثمار هاته من خلال الوظيفة التكوينية، أي؛ التربية القيمية بكل أبعادها وتجلياتها في ارتباطها بالثقافة الإسلامية والمرجعيات الوطنية الناظمة والحاملة لمصفوفة القيم المتعددة والغنية.

3.1: آليات تنزيل التربية على القيم في المدرسة المغربية.
يكتسي سؤال البحث في آليات تنزيل القيم في الحياة المدرسية أهميته من واقع المدرسة نفسها، التي تشكو من استفحال العديد من السلوكيات المشينة بين التلاميذ، أو بينهم وبين غيرهم داخل أسوراها وفي محيطها، فرغم المكانة المتميزة التي يحظى بها مدخل التربية على القيم في المنهاج التربوي المغربي، ورغم الموقع التي تحظى به الخطابات النظرية المعبر عنها في التوجيهات الرسمية والوثائق المرجعية المعتمدة، فإنّه ثمة هوة متنامية بين الرؤية النظرية والواقع العملي الذي يشهد ظواهر سلوكية منافية لمنظومة القيم المدرسية، ويعرف استفحالا مقلقا للعديد من السلوكات المخلة بالقيم داخل المدرسة وفي محيطها، من قبيل ظواهر العنف والغش والتحرش والتعصب والانحراف وغيرها، وهو ما يسائل مخرجات المدرسة الوطنية في بعدها القيمي والسلوكي، ويسائل آليات استدماج هذه القيم وترسيخها في واقع الحياة المدرسية للمتعلمين.
ومن أجل الإسهام في تبديد هامش الهوة بين الجوانب النظرية والعملية للتربية على القيم في الحياة المدرسية طرح المجلس الأعلى للتعليم مصفوفة مقترحات عملية، هي بمثابة آليات عملية لتحصين مسار غرس القيم وترسيخها، واقترح في هذا الباب سبعة مجالات لتنزيل القيم أعرضها فيما يلي:
1.3.1. المجال الأول: المناهج والبرامج.
وتضمن التوصيات التالية:
ادماج المقاربة القيمية في المناهج والبرامج (الرافعة 18 .)
اختيار مصفوفة للقيم انطلاقا من المرجعيات الاساسية للمغرب ولاسيما دستور 2011 .
إعداد أطر ودلائل مرجعية.
تنويع الخيارات الديداكتيكية في إطار خيار المادة المستقلة، وخيار المقاربة التكاملية للمفاهيم والكفايات والمعارف ضمن جميع المواد الدراسية.
ادماج المكونات ت الثقافية في المقررات والأنشطة الدراسية المعنية بالتربية على القيم.
ادماج وحدات تنمية مهارات التواصل والانفتاح وتنمية شخصية الطالب.
2.3.1 المجال الثاني: الوثائق المتعددة والفضاء الرقمي.
وتضمن التوصيات التالية:
استثمار الوسائط التكنولوجية في العمليات التربوية والتعليمية والتكوينية.
معالجة الاشكالات القيمية والاجتماعية التي يطرحها سوء استعمال هّه الوسائط من قبيل: الغش، انتهاك الملكية والحقوق الشخصية، التبعية للأنترنيت….
احداث فضاء رقمي للمؤسسة أو المنطقة التربوية يمكن للمتعلمين من أن ينهلوا منه الوثائق والموارد ذات الصلة بالقيم المدرسية.
3.3.1 المجال الثالث: الحياة المدرسية والجامعية والممارسات المواطنة.
وتضمن ما يلي:
بلورة مشاريع تربوية وثقافية لصالح العيش المشترك والوقاية من العنف والتعصب والتطرف.
العمل بمشروع المؤسسة لتثمين وترصيد الممارسات المواطنة؛
تشجيع المشاريع الشخصية ذات بعد قيمي.
اندية تربوية تصب في سياق غرس القيم المنشودة محليا وطنيا دوليا؛
تعزيز أدوار الفضاء الإعلامي بالمؤسسات.
إرساء اليات الوساطة وتدبير الخلافات المعيقة للدراسة بالمؤسسة.
4.3.1. المجال الرابع: الفاعلون التربويون.
واشتمل على ما يلي:
تعزيز منهاج التكوين الأساس.
اختيار الاطر الادارية والتربوية بناء على مؤشرات قيمية محددة.
اعتماد مجزوءات خاصة بالتربية على القيم في برامج التكوين.
تكريم الفاعلين التربويين المجتهدين في مجال أساليب التربية على القيم.
5.3.1. المجال الخامس: علاقة المؤسسة التربوية بالمحيط والشراكات مع الفاعلين المؤسساتيين.
وتضمن ما يلي:
تجديد صيغ الشراكة والتعاون مع الأسر، المشاركة في مشروع المؤسسة، والتواصل .
الانفتاح على الفاعلين المؤسساتيين في الإعلام، والثقافة، والرياضة .
تنمية العلاقات مع هيئات المجتمع المدني.
توظيف الفضاءات العمومية بمحيط المؤسسة.
6.3.1. المجال السادس: البحث العلمي والتربوي.
واشتمل على التوصية الآتية.
تشخيص البحث العلمي والتربوي لواقع انتشار الظواهر السلبية المناقضة للقيم المستهدفة؛ والبحث عن سبل وحلول لتجاوزها.
7.3.1. المجال السابع: الفئات في وضعية إعاقة وفي وضعية خاصة والفئات المعرضة أو الحاملة للهشاشة.
وتضمن التوصيات التالية.
تعميم التمدرس والتكوين لجميع الفئات، وإعادة إدماج المنقطعين.
ايلاء عناية للفئات المعرضة أو الحاملة للهشاشة حيث تعتبر هذه الاخيرة الهشاشة منبتا لكل مشاعر الإحساس بالدونية والإقصاء، وتولد القابلية لعدم الاندماج، وتقوي في غالب الأحيان النزوع إلى المواقف والسلوكات اللامدنية .
تعزيز قدرات المدرسة على الدعم النفسي والتربوي والمساعدة الاجتماعية والمواكبة في مجال الصحة النفسية وحسن التكيف والاندماج في مسارات الدراسية والفضاءات المدرسية.
وختاما يمكن الخلوص إلى أنّ التربية على القيم رافعة أساسية لتعزيز مدخل الحياة المدرسية في مؤسساتنا التعليمية، ودعامة أساسية لكل إصلاح تربوي حقيقي تحتضنه المدرسة المغربية، ورافعة ضرورية لكل تنشئة اجتماعية سليمة لتلميذ اليوم/ مواطن الغد، وأداة فعالة لتحسين جاذبية مؤسساتنا التعليمية، وتعزيز شعور الانتماء لها ومنسوب الإقبال عليها، وحصنا منيعا للوقاية من مظاهر الانحرافات القيمية والسلوكية داخل المدرسة وفي المجتمع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى