في الصيف الماضي، ظهرت بعض أعراض الإصابة بكورونا على بعض أفراد أسرتي، فاصطحبتهم لإجراء الاختبار الذي كانت تتيحه جميع المستشفيات العمومية بثمن رمزي، ومجانا لفئات أخرى. كان الجناح المخصص لاستقبال مرضى كوفيد19 وإجراء الاختبارات يقع في بناية منعزلة يسار المدخل مباشرة، وهذا اختيار صائب، يعزل المرضى والمصابين المحتملين عن باقي المرضى الآخرين.
كانت أعداد الراغبين في إجراء الفحص كثيرة، لأن المغرب عرف في تلك الفترة من شهر غشت موجة انتشار كبيرة للفيروس، ومع ذلك كان المسؤولون عن المركز ينظمون عملية إجراء الاختبارات باقتدار.. حيث يجمعون بطاقات المعنيين، ويسجلون بياناتهم، ثم ينادون عليهم لإجراء الاختبار، وينتظرون لحوالي عشرين دقيقة قبل إعلان النتائج..
ويتعين على الجميع الانتظار أمام المركز، وحيث أن الشمس كانت حارقة، والحرارة مرتفعة في شهر غشت، وأغلب القادمين تظهر عليهم أعراض المرض والإعياء، ما بين حوامل وأمهات اصطحبن صغارهن وشيوخ وعجائز وبعض الشباب؛ فقد تسابق الجميع على اقتناص بعض الظل القليل بالجلوس تحت شجيرات يافعة تتناثر أمام مركز كوفيد19… وطبعا بدأت بعض مظاهر الكرم المغربي وحسن الأخلاق تظهر من خلال تنازل الشباب والرجال عن “الحجارة” التي يجلسون عليها تحت ظل متقطع لفائدة الأمهات وكبار السن.
كان الجميع منهكا بالمرض، ومتوترا من مرض ما زال العديد من الناس يعتبره وصمة عار فيكابر ولا يعترف بالإصابة.. لذا، ما إن يخرج الممرض حاملا نتيجة الفحص لمجموعة لا تتجاوز العشرة أشخاص كل مرة، حتى يتقاطر عليه كل الجالسين ويتجمعون حوله بشكل ينافي إجراءات السلامة الصحية، فيضطر عامل الأمن إلى أن يتدخل ويحاول تفريق الجمع وإبعادهم عن المدخل..
بعد أن ظهرت نتائج اختبارات أسرتي، وهممت بالمغادرة، وصلت شاحنة البلدية، وتوقفت أمام المركز؛ وبدأ العاملون ينزلون حواجز حديدية ويضعونها أمام المركز؛ حتى تمنع المواطنين من التجمع الفوضوي أمام المدخل.
تأملت المشهد طويلا، والذي كان يشرف عليه حارس الأمن الغاضب المتوتر، ثم استدرت ناحية المواطنين المتفرقين بتفرق الأشجار الصغيرة التي بالكاد تحجب لهيب الشمس عن رؤوسهم، والإنهاك من المرض ومن انتظار لا يقل عن ثلاث ساعات قد أخذ منهم؛ ثم طلبت من أسرتي الانتظار قليلا، خرجت من المستشفى لأعود إليه بعد دقائق وأنا أحمل بعض قنينات الماء، وزعتها على بعض الأطفال وكبار السن ومن كانت تبدو عليهم مظاهر المرض الشديد، ورغم العطش، إلا أنهم لم يقبلوا أخذ المياه إلا بعد أن أخبرتهم أن مجانية، لعله الفقر أو الحذر من استغلال الموقف لتربح سريع سبب الرفض في البداية.
غادرت المستشفى، وأنا أفكر في سؤال يشغل ذهني منذ تلك الفترة إلى الآن: لماذا رفع مسؤول المستشفى سماعة الهاتف ليتصل بمسؤول البلدية طالبا حواجز حديدية؟ ولم يتصل ليطلب خيمتين كبيرتين أو ثلاث، يتم تخصيصها كغرف انتظار، تقي الجالسين أشعة الشمس الحارقة، وتحفظ لهم بعض الكرامة أثناء الانتظار، بدل الجلوس على الحجارة المتفرقة في وضع أعتبره مهينا؟؟
كيف اشتغل عقل المسؤول لينتج إجراءً يمكن تصنيفه أمنيا، بدل أن ينتج عقله إجراء يدخل في خانة احترام المواطن وتكريميه؟ كيف يتشكل هذا العقل “الأمني” الذي منتهى همه تطبيق المساطر والإجراءات وحمايتها؟ ولا يتشكل في المقابل عقل إبداعي هدفه تجديد طرائق العمل ومنهجياته بشكل يحسن تجربة ارتفاق المواطنين ويرقى بها؟
منذ ذلك الموقف، وأنا أتأمل في هذه الواقعة التي تتكرر بمظاهر وأشكال مختلفة في مواقف اجتماعية متجددة، ومؤسسات عديدة. ويرتبط فهم هذه الواقعة بثلاث جوانب أساسية:
تتمثل المسألة الأولى في الإشكال الذي عبرت عنه بالتساؤل السابق: لماذا اتصل المسؤول ليجلب حواجز حديدية، بدل أن يتصل ليجلب خيمات كبيرة تستخدم كقاعات انتظار؟ ومن خلال تأملي يبدو لي أن الأمر هو نتيجة لعقلية تدبيرية أخشى أن أقول أنها شائعة عند جميع المسؤولين؛ وهي عقلية تتشكل نتيجة الطرق التي تعمل بها الإدارة، والمفهوم الذي تضعه للسلطة وللتراتبية،
وللبيروقراطية الإدارية.. يمكن أن ألخص هذه العقلية في الدعاء الذي ألِف المغاربة الموظفون ترديده دائما: “الله يخَرّجْ سَرْبِيسْنا على خير”، بمعنى: “نسأل الله أن ننهي مسارنا المهني على خير، دون أن نتورط في أي مشكل”.
وهذه القاعدة الضمنية، تحدد مهمة أي موظف أو مسؤول في طاعة أوامر رؤسائه وتجنب الأخطاء. وهي قاعدة مهمة، مسؤولة بشكل مباشر عن السير السليم للعديد من المؤسسات وانتظام خدماتها. لكنها في المقابل مسؤولة أيضا عن الجمود الذي تعرفه هذه المؤسسات، وهو جمود رهيب وبنيوي، بحيث يمكن لأي موظف أن يبتكر أفكارا مبدعة لتطوير الخدمات التي تقدمها المؤسسة وتحسين منهجيات العمل، طبعا إذا كان هذا الموظف أصلا شخصا مبدعا ويفكر خارج الصندوق، وقد أفلت من النظام التعليمي ونظام التوظيف السائدين!
إذ يمكن للموظف المبدع تقديم العديد من الأفكار الخلاقة، لكنها ستصطدم على الأقل بعائقين اثنين يحولان دون تنفيذ تلك الأفكار: الأول آليات بيروقراطية ومسارات متشابكة من المراحل والإجراءات والمجالس واللجان التي يتعين عليه عرض أفكاره فيها، وإقناع موظفين نمطيين تقليديين تتحكم قراراتهم وتفكيرهم النمطي في تحديث وتحسين الإدارة بسلطة المصادقة على تلك القرارات واعتمادها؛ وطبعا حتى إذا رزقه الله صبر أيوب على اتباع المساطر والتدرج على المراحل، فإنه في الغالب لن يتم المصادقة عليها!
وهذا يقودنا للعائق الثاني، وهو مبدأ عدم الخطأ الذي تضخم عند الموظفين والمسؤولين بشكل رهيب ليصبح عائقا نفسيا أمام أي جديد يغير الطريقة التقليدية للعمل ولو قليلا، لأنه يحمل معه هامش خطأ ممكن مهما كان صغيرا.. والعقلية الإدارية الحالية، حينما تختار بين الإبداع لتجويد خدماتها، مع ما يحمله ذلك من ضرورة الاجتهاد والتعلم من أوجه القصور لتحديث أساليب العمل؛ وبين طريقة التعامل القديمة والتقليدية المجربة والآمنة، فإن أي مسؤول سيفضل ضمان أمانه الشخصي وسيقدمه على مصلحة المواطنين.
ومن سلبيات هذا المنظور، أنه يفرغ الإصلاحات العديدة التي تقوم بها الدولة من محتواها التنموي، ويحولها إلى إجراءات باردة دون أثر تنموي حقيقي، وهذا ما أخشى حدوثه أيضا مع توجهات النموذج التنموي الجديد، فالمسؤول التقليدي لا يتبنى التوجهات الرسمية بمنظور الحماس الشخصي والانخراط الفعلي فيها بما تمثله من خير للبلد، بل همه الأساس هو تنفيذ تلك السياسات دون خطأ، ورفع تقارير إيجابية تبرز أن كل شيء يسير على ما يرام، وإذا رجعنا إلى كل السياسات التي اعترفنا لاحقا وبعد تعاقب الحكومات بفشلها، سنجد أن التقارير التي كانت ترفع حينها كانت إيجابية باستمرار، ولا صوت كان يجرؤ على النقد أو التشكيك؛ لأن أي مسؤول صغير أو متوسط سيرفع تقريرا حقيقيا عن فشل أو عدم ملائمة، سيفاجأ بتأنيب حاد من رئيسه، يحمله فيه مسؤولية هذا الفشل، ويدعوه إلى تدارك تقصيره، بدل التعامل بجدية مع ثغرات التوجهات الجديدة.
وللإشارة فإن هذا العائق البنيوي يسود جميع المؤسسات العمومية بما فيها تلك التي يفترض بها دعم الإبداع والبحث العلمي!
الإشكال الثاني، وهو جزء من العائقين السابقين، يتمثل في الطريقة التي يدرك بها المسؤول المنصب، وهذا نلخصه بكلمة واحدة: الامتياز! حيث يعتبر المسؤول أنه يمتلك امتيازا يستحقه لبراعته ومؤهلاته العلمية أو لخبرته أو للخدمات التي قدمها للمؤسسة. وهذا الامتياز يتكرس عبر مسارات الترقي بقنواتها المؤسسية والاجتماعية الثقافية المركبة، وبطريقة العمل التي تكرس فروض الطاعة والولاء ضمن منظور عدم الخطأ الذي تحدثت عنه سابقا، مما يغذي نرجسية المسؤول، خصوصا حينما تكرس الأنظمة منظور الامتياز عبر السيارة الوظيفية والسكن الوظيفي والمعاملات التفضيلية..
فيتشكل منظور من الاستعلاء على المواطن يغذيه وهم الامتياز، بدل أن يكون المنظور السائد هو خدمة الأفراد والمواطنين. لذا يبقى المحرك الأساسي للقرارات هو إرضاء المسؤول الأعلى، وضمان السير العادي للعمل، وعدم الخطأ؛ بدل أن يكون المحرك هو تقديم خدمات جيدة للأفراد تحفظ كرامتهم؛ ويتم النظر إلى الأفراد كعبء يحتاج إلى حراس أمن وإجراءات صارمة لتنظيم ارتفاقهم، وقاية من أي فوضى أو خطأ؛ بدل النظر إليهم باعتبارهم مستحقي الخدمات التي يتمثل الدور الحقيقي للمسؤول في الحرص على توفيرها لهم بأحسن صيغة ممكنة.
وهذا ما يظهر في سرعة تنفيذ الاقتطاعات من الرواتب مقابل تأخر تنفيذ الترقيات، ويظهر في مبدأ أداء الفواتير المرتفعة حتى ولو كان الخطأ فيها واضحا، ثم اللجوء لاحقا لمسطرة الطعن والشكايات، ويظهر في اضطرار المواطن إلى الذهاب إلى الإدارة والاستفسار عن تأخر تسوية ملفه بعد طول انتظار تجاوز ستة أشهر، فتخبره موظفة كسولة أن وثيقةً تنقص ملفه رغم أن الإدارة طلبت منه ملء مطبوع يتضمن رقم الهاتف والبريد الإلكتروني للتواصل معه. وقد حدثت معي شخصيا، لنكتشف أن الوثيقة موجود وأن الموظفة لم تبحث جيدا!
الإشكال الثالث، هو امتداد للإشكالين السابقين، وهو أن طريقة تنظيم العمل، ومسطرة الارتفاق هي المسؤولة عن صناعة الفوضى وضغط العمل الذي يرهق الموظفين أيضا، وأعود هنا للموقف الذي انطلقت منه بداية: فلو أن المستشفى وفر بدل الحواجز خيمات انتظار، وطلب من الناس الجلوس فيها، وأخبرهم أن الممرض المكلف هو من سيأتي إليهم لينادي على الذين سيجرون الفحص أو لإعلان النتائج، لما حدثت فوضى ولا تدافع، ولما ارتفع منسوب التوتر بين الجميع. فإذا أحدث بعض المرتفقين فوضى أو أثاروا ضجيجا أو أحدثوا تدافعا، فإن المؤسسات الذكية، لا تسارع إلى لوم الأفراد أو تشديد الإجراءات الأمنية، بل تقوم بكل بساطة بمراجعة إجراءاتها وتنظيماتها، وتقوم بتطويرها والإبداع فيها. وهناك حاليا مجال معرفي كبير يتعلق بتصميم الاختيارات، يعرف تراكما علميا كبيرا عبر العالم، وتراكما تجريبيا هائلا وجاهزا للاستفادة منه، وهو يقوم على فكرة تصميم مسارات إيجابية تساعد الناس وتوجههم لاتخاذ قرارات سليمة، بحيث أن الإدارة هي المسؤولة على الإبداع في تجربة الارتفاق بما يساعد المواطنين على الانتظام واتباع التوجيهات.
وإذا أردت أن أختم ببعض التأمل الفكري، فإن كل ما انتقدته أعلاه، هو نتيجة لتوسع النظام البيروقراطي وتحكمه في إدارة الحياة العامة، وهذا النظام مع الأسف يستمد قوته وهيمنته على العقل والفعل البشرين عبر تحييد الفعل الاجتماعي عن الأخلاق، من خلال استئصال المعايير الأخلاقية من عملية تقييم الأفعال البشرية؛ وأفضل وسيلة لتحقيق التحييد الأخلاقي والتحرر من المسؤولية الأخلاقية هو البيروقراطية الإدارية، فلا تجد مثلا تقييما للموظفين يتضمن معيار رضى المواطنين عن خدماتهم، أو معيار التجديدات الإبداعية التي أدخلها الموظف على منهجية العمل. وعلى رأي زيغمونت باومان فلقد “تطلبت البيروقراطية امتثالا للقاعدة لا حكما أخلاقيا، وواقع الأمر أن أخلاق الموظف أُعيد تعريفها باعتبارها طاعة الأوامر والاستعداد لإتقان العمل، مهما كانت طبيعة المهمة المأمور بأدائها، ومهما كان تأثيرها في الأطراف المتضررة من الفعل البيروقراطي؛ فكانت البيروقراطية أداة لنزع المهارة الأخلاقية”.
وأتوقع أننا سنقطع أشواطا كبيرة في تجويد تجربة ارتفاق المواطنين، وتحسين أداء المؤسسات العمومية خصوصا، إذا اشتغلنا على تعزيز المهارة الأخلاقية عند المسؤولين، وذلك حينما تحرص مؤسسات تكوين الأطر، والمؤسسات الجامعية التي تعد الطلبة لسوق الشغل (مثل المهندسين والأطباء وغيرهم) على تقديم تكوينات حديثة في مجال أخلاقيات العمل، ترسخ في نفوس المستفيدين منها مبادئ أخلاقيات المهنة، ومبادئ المواطنة والوطنية، وقبلهما تعزيز تصور واضح عن مهمة ذلك المسؤول والمتمثلة في خدمة الأفراد وتنمية الوطن.
حينها لن يكون شعار كل موظف الدعاء المأثور: “الله يخَرّجْ سَرْبِيسْنا على خير”، ” وإنما دعاء: أعاننا الله على خدمة الناس وتنمية الوطن.
هشام المكي
أستاذ الإعلام والتواصل، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس