بقلم الدكتور سدي علي ماءالعينين
بسم الله الرحمان الرحيم :
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ” (88) هود
أردت ان ابدأ مقال اليوم بهذه الآية الكريمة التي تتضمن خطاباً رفيع المستوى من شعيب عليه السلام لقومه، لأبعث برسالة الى متابعي القناة الذين يعبر البعض منهم على ان مقالات اليراع فيها جرأة زائدة .
اردت هنا ان اوضح إن كان الامر يحتاج الى توضيح ،ان رصد إختلالات المجتمع و الدولة و المسؤولين وتحليلها وتقديم مقترحات لحلها ، لا يمكن ان يكون في خانة ما يمكن ان يعاقب عليه القانون ، فنحن لا نرمي احدا بالباطل ،ولا نمارس التشهير في حق اي احد ، وما نعرضه من قضايا ليس فيها مس بصورة بلادنا إيمانا مني ان كل شعوب العالم تعيش نفس الظواهر و بشكل متفاوت ، وبنفس التفاوت تكون طرق المعالجة .
اليوم سنتحدث عن موضوع طالما كتبنا عنه ، موضوع يعكس حجم السكيزوفرينيا التي تعرفها تشريعاتنا في علاقتها بسلوكنا وعلاقاتنا وواقعنا على العموم.
كل مشغل له علاقة شغل مع الشغيلة ، اساسها القيام بمهام مقابل اجر شهري ، و هذه العلاقة تنظمها تشريعات تحاول ان تجعل المصلحة متبادلة ، و تقنن التوظيف والعمل و الانفصال و التقاعد و التغطية الإجتماعية …
ولمراقبة هذه العلاقة احدث المشرع منصب مفتش الشغل ودوره هو السهر على تطبيق الأحكام التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالشغل. إعطاء المشغلين والأجراء معلومات ونصائح تقنية حول أنجع الوسائل لمراعاة الأحكام القانونية.مع إحاطة السلطة الحكومية المكلفة بالشغل علما بكل نقص أو تجاوز في المقتضيات التشريعية والتنظيمية المعمول بها. وإجراء محاولات التصالح في مجال نزاعات الشغل الفردية و الجماعية.
واما إذا كان المشغل هو الدولة ،فإن المحاكم الإدارية هي المخول لها البث في النزاعات .
مفتش الشغل يراقب الشركات و المقاولات بخصوص علاقتها مع العمال و الموظفين والاجراء على العموم . و تاتي الاحكام لصالح الشغيلة ضد المشغل ، إن هو لم يوفر لها كل الحقوق من تأمين وتغطية صحية و تقاعد وتعويض عن المرض و الحق في العطل و تحفيزات. و التعويض عن حوادث العمل الى ما الى ذلك من الحقوق .
هناك مثل مغربي يعرفه العامة والخاصة :” الفقيه لي ترجينا بركتو دخل للجامع بلغتو (الحداء)”.
هذا المثل ينطبق على الدولة المغربية في تعاملها مع مواطنيها في مجال التوظيف ، فهذه الدولة التي تفرض على الغير إحترام قانون الشغل ،هي اول من يخرقه ويدوس عليه ، وذلك بإعتماد الإنعاش الوطني .
يخول المرسوم رقم 2.85.394 الصادر في 18 أبريل 1985، وزير الداخلية السلط والصلاحيات في ميدان الإنعاش الوطني، وتعتبر وزارة الداخلية هؤلاء العمال، عمالا مياومين لأنهم يمارسون أشغالا “لا تكتسي صفة الديمومة”، وبالتالي فهم بحسبها لا يوجدون في وضعية نظامية قارة، رغم أن بعضهم قضى عقودا في نفس العمل!!!
كانت بداية عمال الإنعاش الوطني في المغرب شبيهة بأوضاع العبيد، إذ كانت تسلم لهم بطاقة الرشم اليومي تثبت شخصيتهم داخل الأوراش، مقابل قيامهم بأعمال يومية شاقة يقابلها كل 15 يوما كيس طحين، وقنينة زيت “هدية من الولايات المتحدة الأمريكية إلى الشعب المغربي”.
الدولة تتهرب من تسوية وضعية هؤلاء ،وفي الوقت نفسه تتدرع بأن الاعمال التي يقومون بها ليست دائمة ،ولكن الواقع يقول ان هؤلاء يقومون باعمال يومية وبشكل منظم ومتواصل ،وهناك عمال إنعاش قضوا في الخدمة ازيد من ربع قرن !!!
الدولة ترى ان هناك تضخم في عدد الموظفين العموميين ولا يمكنها ادماجهم لان ذلك يخل بإملاءت الجهات المانحة التي تدعو دوما لتقليص صرف اموال الدين في التسيير .
اما بخصوص مطالب هذه الفئة في الإدماج في اسلاك وسلاليم الوظيفة العمومية فإن وزير الداخلية الفتيت ،صرح في البرلمان قبل سنة الى أن إدماجهم يطرح “تعارضا صريحا مع مبدإ تكافؤ الفرص والمساواة لولوج الوظائف العمومية، حسب الاستحقاق المنصوص عليه في الباب الثاني من الدستور والمتعلق بالحريات والحقوق الأساسية”.
زيادة على ذلك، أكد الوزير أن عددا من المناشير الوزارية تمنع التوظيف المباشر سواء بالنسبة للإدارة العمومية أو الجماعات الترابية، على رأسها منشور الوزير الأول رقم 26/99 بتاريخ 5 أكتوبر 1999 الذي منع توظيف الأعوان المؤقتين بالجماعات المحلية، ومنشور الوزير المكلف بتحديث القطاعات العامة رقم 5.و.ع بتاريخ 28 ماي 2003 المتعلق بمنع توظيف الأعوان المؤقتين والمياومين والعرضيين بالإدارة العمومية.
ولا نحتاج ان نذكر السيد وزير الداخلية ومعه الحكومة ان هؤلاء مندمجين في الوظيفة من حيث العمل ،لكنهم غير مندمجين من حيث الحقوق !!!
قانونيا هم عمال وموظفون لدى إدارة عمومية (الإنعاش الوطني -وزارة الداخلية) أو تابعين لها، وفعليا يعملون مثلهم مثل عمال وموظفين رسميين، يقتسمون معهم نفس الواجبات، لكن بأجور وحقوق اجتماعية مختلفة.
مشكلة المغرب مع البطالة وسوق الشغل ان البلاد تغزوها مهن ووظائف لا ينظمها القانون ، مثل الحمامات و ورشات السيارات و النجارة ،و التعليم الخصوصي و المقاهي والحانات و الامن الخاص و قاعات الالعاب و لاعبي كرة القدم بقسم الهواة ،و مربيات الروض و التعليم الاولي ،و سائقوا سيارات الاجرة و قاعات الحفلات …
كل هؤلاء وغيرهم كثير هم جزء من اقتصاد بلادنا ومصدر من مصادر التشغيل و التوظيف ، لكنهم جميعا لا حقوق لهم ولا انظمة تنظمهم !!!
نحن امام عمال وموظفين يحسبون على سوق الشغل ،لكن اجورهم و ووضعيتهم تجعلهم في حالة العطالة المقنعة .
فكيف سيكون الحال والدولة نفسها تعطي لنفسها الحق ان تنخرط في هذا النظام الغير مهيكل وتدعو الى إصلاحه ؟!!!
تقولون اين الخلل ؟
هذا وجه من اوجه الخلل ، مواطنون لا يحسون بالاستقرار في عملهم ،وحقوقهم مهضومة و وضعيتهم ملتبسة ،و الدولة تكرس هذا الوضع و تنخرط فيه .
لا يمكن ان نتحدث عن تماسك اجتماعي واستقرار اسري ومادي و مواطنون لا ضمانة لديهم بالبقاء في العمل ،ولا حقوق لديهم وهم في العمل ، ناهيك عن الاجور التي تقر الدولة حدها الادنى و تخالفه مع عمال الإنعاش الوطني.
قبل الحق في العمل اصبح لزاما الحديث عن حقوق الشغيلة .
الذين يتركون البلاد في هجرات عائلية جماعية الى كندا وامريكا ،و الذين يرمون بانفسهم في المحيط ، يتفقون على حقيقة واحدة :
إنهم يغادرون ويهاجرون ويغامرون من اجل العيش الكريم ، والذي لا يعني وظيفة نص /نص, وحقوق نص/نص و استقرار نص/نص .
إن ما يغري المهاجرين في اوروبا هو نظامهم المهني و الصحي والدراسي و التوازن الحاصل بين الحقوق و الواجبات .
وهو ما نفتقده مع الاسف في القطاعين العام والخاص ، ومالم نجب على هذا الامر فإننا مؤكد سنكون بعيدين عن الاصلاح .