أمينة أوسعيد
للناس فيما يعشقون من روائح مذاهب. هناك من يعشق رائحة التراب الممزوج بحبات المطر وهناك من يعشق رائحة الأطفال وغيرها من الروائح المميزة التي تربط الإنسان إما بذكرى أو حدث معين..
أما أنا فأعشق رائحة الكتب.. كلما حملت كتابا بين يدي منذ صغري، أذهب به إلى أنفي الكبير، فأمرغه في الصفحات جيدا حتى تعلق به تلك الرائحة المميزة.. بدأت القصة مع مقررات الدراسة.. كنت أشمها قبل أن أغطيها بالأغلفة الملونة.. تطور الأمر عندما كبرت وأصبحت في مرحلة الإعدادي ثم الثانوي أقصد الخزانة البلدية بمدينتي.. كنت أقرأ دون توقف وأشم أكثر.. كل ما تنصحني به السيدة المكلفة بالخزانة كنت اقرأه وفي بعض الأحيان كنت آتي بعناوين أسمعها من صديقاتي..
الآن تطورت الأمور وحل الكتاب الإلكتروني محل الكتاب الورقي.. لكن حليمة لا يمكن أن تتخلى عن عادتها القديمة.. لم تغرني القراءة على شاشة الهاتف والحاسوب أبدا.. من أين لي بالرائحة المميزة؟!
عندما حملت رواية #سرداب_النسيان #عبد_القادر_الدحمني استنشقت رائحتها بعمق… رائحة خفيفة غير مركزة كتلك التي عهدتها في كتب أخرى.. خدعتني نعومة ملمسها.. لأجد نفسي أمام متاهة مدهشة. كل فصل في الرواية يقذفك نحو عالم من العوالم التي شيدها الكاتب بلغة جذابة ورائقة.
هو عمل أقل ما يقال عنه أنه مميز.. يحملك على جناح المتعة ليلقي بك بين سراديب “المحجوب” بطل الرواية.. هذه الشخصية التي ستكرهها أحيانا وتتعاطف معها أحيانا أخرى.. شخصية مركبة ضحية عنف طفولي من طرف “حادة” الأم القاسية المتجبرة التي صنعت من “المحجوب” وحشا وألقت به وسط المجتمع ليدهس كل من يقف في طريقه دون رحمة أو شفقة.. بطل الرواية الذي تعرض للاغتصاب مرات عديدة من طرف ابن الجيران الذي قدم له حبا وهميا ونصب له فخاخا من الحنان ليفترس طفولته في غفلة من الجميع.. كبر المحجوب واشتغل في جهاز المخابرات ليتغذى الوحش الذي نما بداخله من دماء المعارضين للنظام وينتقم بنفس الطريقة للطفل الذي بداخله..
وأنت تقرأ الرواية ستقفز إلى ذهنك الكثير من التساؤلات: لماذا قتل الكاتب أطيب شخصيات الرواية؟! في المقابل زاد تجبر الأشرار ومنحهم فرصة أخرى للحياة؟!.. ستتساءل أيضا عن ماهية الحب الكبير الذي جمع “سعاد” بحبيبها “ناصر”.. تتشابك خيوط الرواية مع توالي فصولها وتتسارع دقات قلبك وأنت تتخيل وصلات التعذيب التي ابتدعها “المحجوب” لينتزع اعترافات المعارضين والمناضلين على حد السواء..
تطرق الكاتب أيضا لنقطة لطالما ناقشتها مع أصدقائي وكنت أتعنت لدرجة العصبية لوجهة نظري. ووجدت الكاتب يؤيدني الرأي.. ذلك التمزق الذي يعيشه الانسان في مرحلة من مراحل عمره وإثبات ذاته.. وتموقعه بين اليسار وما يجيزه من حريات فردية وبين اليمين والتزاماته.. لتسقط قلاع اليسار عند أعتاب الزواج وخريف العمر..
وهنا سأترككم مع جزء من رواية سرداب النسيان.. أدعوكم لقراءتها، ففيها ما يستحق القراءة:
” أكاد أجزم أن هذا البلد قد أضاع عقودا عديدة في صراعات جوفاء انتهت بشكل درامي حزين، ولم يستفد منها في النهاية إلا الخصوم الذين كنا نعتبرهم أعداء قبل هذا الوقت، ماذا فعل اليسار في هذا البلد؟ دعا أستاذ جامعي إلى الإلحاد معظم سنوات شبابه، ثم عاد في آخر عمره إلى المسجد، وذهب ليؤدي مناسك الحج، وبارك له الملحدون القدامى ذلك، وبدأوا ينادونه بالحاج، ورجع إلى الجلباب والسبحة واحترام تقاليد المجتمع في تفاصيلها”.
أمينة”.