الخطابات الملكيه

التحديات الراهنة والحاجة الى العودة لروح خطاب 9 مارس 2011.

لقد شكل خطاب 9 مارس الإطار المرجعي الوطني الذي أسس لمرحلة جديدة بعد ثلاثة عشرة سنة من حكم جلالة الملك محمد السادس، والتي قوامها مراجعة دستورية جد مهمة انبثق عنها دستور فاتح يوليوز 2011.
ويعتبر هذا الخطاب الملكي خطاب التأكيد على التوجهات الاستراتيجية للمملكة المغربية كمشروع الجهوية المتقدمة، وما ينطوي عليه من تطوير للنموذج الديمقراطي التنموي المغربي المتميز، باعتباره اطارا اقتضي مراجعة دستورية عميقة، كما شكل الخطاب الملكي محطة إطلاق إصلاحات جديدة شاملة، في تجاوب كبير مع كل مطالب الاصلاح التي عبرت عنها مكونات الأمة.
والمغرب اليوم يتوقف على العودة لروح خطاب 9 مارس 2011 لما له من قدرة على تأطير ومواجهة الظرفية وما يتوفر فيه من لغة وأدوات الاصلاح والتأكيد على المبادئ والأسس الوطنية الضامنة للاستمرار في الاصلاحات وتحقيق الاهداف البنيوية والنسقية الكلية ومحاكاة النتائج التنموية المحققة قياسا بالأهداف المسطرة.
كما ان تقرير اللجنة الاستشارية الملكية للجهوية، التي كلفها جلالة الملك بإعداد تصور عام لنموذج مغربي للجهوية المتقدمة، بعد مساهمة الهيآت الحزبية والنقابية والجمعوية. وتفعيلا للانخراط في نقاش وطني واسع وبناء، وبعد تقديم قراءة في الحصيلة التنموية لسنة 2023، والوقوف على بعض الاختلالات وما يفرضه الواقع من إعمال لأشكال المحاسبة والمساءلة القانونية في ارتباط بالسياسات العمومية الأمنية، وما تفرضه الظرفية من إعادة توجيه لسياسة الدولة من أجل تعزيز المكتسبات وضمان التقدم في مجالات متعددة ومواجهة التحديات التي أصبحت متسارعة ومكلفة زمنيا وماديا وعلميا.
ان استراتيجية التنمية المحلية كما جاءت في خطاب ثورة الملك والشعب 20 غشت 2011، أخذت بخيار الجهوية الموسعة التي ما تزال تبحث عن التنميط لتكريس التنوع الوطني المتكامل، والذي يراعي الإرادة الشعبية المباشرة، المعبر عنها باستفتاء دستوري، ومشاركة شعبية في عمليات انتخاب المجالس، وكذلك التوجهات الملكية المحددة في خطاب 9 مارس كما يلي:
– تخويل الجهة المكانة الجديرة بها في الدستور، ضمن الجماعات الترابية، وذلك في نطاق وحدة الدولة والوطن والتراب، ومتطلبات التوازن المجالي، والتضامن الوطني مع الجهات، وفيما بينها، قياسا على أنظمة نموذجية ناجحة في تحقيق التنمية والاستقرار، لاسيما بعد التنصيص على انتخاب المجالس الجهوية بالاقتراع العام المباشر، وعلى التدبير الديمقراطي لشؤون الجهة، مما يساءل المنتخبين عن مدى نجاحهم في القيام بالتدبير الجيد للتراب وتحقيق التنمية الترابية في إطار التنافس بين الجهات، خصوصا بعد تخويل رؤساء المجالس الجهوية سلطة تنفيذ مقرراتها، بدل العمال والولاة، الذين تحولت مهامهم من وصاية الى مصاحبة ومراقبة في حدود القانون، وتعزيز مشاركة المرأة في تدبير الشأن الجهوي خاصة، وفي الحقوق السياسية عامة، حيث تم تخصيص نسبة مئوية للنساء ضمن المجالس المنتخبة بما يعزز مشاركة المرأة تمهيدا لتحقيق المناصفة التي نص عليها الفصل 19 من الدستور، والتنصيص القانوني على تيسير ولوجها للمهام الانتخابية طبقا لمكانة المرأة الدستورية ومراعاة للتشريعات الدولية.
– كما تم إعادة النظر في تركيبة وصلاحيات مجلس المستشارين، في اتجاه تكريس تمثيليته الترابية للجهات، وفي نطاق عقلنة عمل المؤسسات، حيث إن تمثيلية الهيئات النقابية والمهنية، تظل مكفولة بعدة مؤسسات، وعلى رأسها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، بل كان الهدف الأسمى من الخطاب الملكي هو إرساء دعائم جهوية مغربية، بكافة مناطق المملكة، وفي صدارتها أقاليم الصحراء المغربية، التي انفردت بنموذج تنموي غير من وضعيتها التنموية وتحولت الأقاليم الجنوبية للمملكة الى منصة لإطلاق مشاريع استرتيجية على مستوى القارة الافريقية اضافة الى النهوض بالبنية التحتية التي زادت من تشجيع الاستثمار الدولي الذي يتطلب شروطا منها ضرورة توفير الجهات على حكامة جيدة، وتكفل توزيعا منصفا وجديدا، ليس فقط للاختصاصات، وإنما أيضا للإمكانات بين المركز والجهات، وذلك لتعزيز التنافس المشجع على جلب الاستثمارات، اضافة الى الأمن القانوني والقضائي. لكن الجهوية لا يمكنها ان تسير بسرعتين: جهات محظوظة، تتوفر على الموارد الكافية لتقدمها، وجهات محتاجة، تفتقر لشروط تحقيق التنمية، لأن إعطاء الجهوية كل مقومات النجاعة يرتبط بتحديث وتأهيل هياكل الدولة كلها.
وتماشيا مع ما حققه المغرب من مكاسب وطنية كبرى، بدءا بإرساء مفهوم متجدد للسلطة الذي تأسس مع أول خطاب ملكي سنة 1999 وما تم على الأرض من أوراش سياسية وتنموية عميقة، ومصالحات تاريخية رائدة، تحول معها الطابع المتقدم للممارسة السياسية والمؤسسية الى واقع منصهر لعب فيه الوعي الملكي العميق بجسامة التحديات، وبمشروعية التطلعات، وبضرورة تحصين المكتسبات، وتقويم الاختلالات، حافزا ودافعا قويا للالتزام بدينامية إصلاحات وطنية عميقة، جوهرها منظومة دستورية ديمقراطية. وأساسها قدسية الثوابت الوطنية، التي هي محط إجماع وطني، وهي الضامنة لحرية ممارسة الشعائر الدينية في ظل إمارة المؤمنين، والنظام الملكي، والوحدة الوطنية والترابية، والخيار الديمقراطي، باعتبارها ضمانات قوية، وأساس متين، لتوافق تاريخي، يشكل ميثاقا جديدا وعقدا اجتماعيا يجمع بين العرش والشعب.
وعليه يجب العودة للمرتكزات السبعة الأساسية للإصلاح الدستوري: والمتمثلة فيما يلي
– أولا: التكريس الدستوري للطابع التعددي للهوية المغربية الموحدة، الغنية بتنوع روافدها والمنصهرة، وفي صلبها الأمازيغية باعتبارها رصيد لجميع المغاربة، انطلاقا من مفهوم الأمة التي يعتبر القانون هو أسمى تعبير عن إرادتها، وانطلاقا من مكانة جلالة الملك باعتباره ممثلها الأسمى، والذي يعود اليه اختصاص تدبير قضاياها دون غيره.
– ثانيا: ترسيخ دولة الحق والمؤسسات، وتوسيع مجال الحريات الفردية والجماعية، وضمان ممارستها، وتعزيز منظومة حقوق الإنسان، بكل أبعادها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية، والثقافية والبيئية، ولاسيما بعد دسترة التوصيات التوجيهة لهيأة الإنصاف والمصالحة، والالتزامات الدولية للمغرب، وما عبرت عنه التوجهات الرسمية للدولة، وصيانة الحقوق والحريات من جميع انواع التطاول التي تمس بطابعها الدستوري.
– ثالثا: الارتقاء بالقضاء إلى سلطة سيادية ومستقلة، وتعزيز السيادة القضائية وتفعيل صلاحيات المحكمة الدستورية، توطيدا لسمو الدستور، ولسيادة القانون، والمساواة أمامه، وذلك لضمان حماية الحقوق والحريات ومواكبة متطلبات تكييف العمل القضائي مع الاتفاقيات الدولية وما تتطلبه الدبلوماسية القضائية والتعاون الدولي.
– رابعا : تعزيز مبدأ فصل السلط وتوازنها، وتعميق دمقرطة وتحديث الحياة السياسية وعمل المؤسسات الدستورية وعقلنتها، من خلال :
– ربط البرلمان المنبثق عن انتخابات حرة ونزيهة، وتبوأ فيه مجلس النواب مكانة الصدارة، مع توسيع مجال القانون، وتخويله اختصاصات جديدة، كفيلة بنهوضه بمهامه التمثيلية والتشريعية والرقابية والديبلوماسية، وهو ما يقتضي تطهير العمل السياسي البرلماني من الشوائب التي ترتبط بسيرة ممثلي الأمة التي تخضع لعولمة المعلومة، وتؤثر على سمعة المؤسسة التشريعية وعلى جودة العمل التشريعي وعلى مصداقية علاقات ممثلي الأمة بالرأي العام والهيئة الناخبة.
– ربط الحكومة المنبثقة عن الإرادة الشعبية بمدى التزامها ببرنامجها وبوعودها كاملة، بحكم أنها أفرزتها صناديق الاقتراع، وحظيت بثقة أغلبية مجلس النواب الذي نصبها ويتحكم في عملها ومصداقيتها من خلال منحها الثقة والموافقة على برنامجها الحكومي، ومراقبتها بشكل دوري وبوسائل المراقبة القانونية المتاحة كالأسئلة واللجان وملتمس الرقابة…الخ، ذلك أن رئيس الحكومة الذي يتم تعيينه من الحزب السياسي المتصدر انتخابات مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها، مع تقوية مكانته الدستورية، باعتباره رئيسا لسلطة تنفيذية فعلية، ويتولى المسؤولية الكاملة على ادارة أعمال الحكومة والإدارة العمومية، وقيادة وتنفيذ البرنامج الحكومي، اضافة الى مستجد دسترة مؤسسة مجلس الحكومة، وتوضيح اختصاصاته، يبقى هو المسؤول عن تنفيذ كل الوعود وطبقا لالتزاماته السياسية، ومساءلته كمسؤول حكومي أول من شأنه اعطاء القيمة لدولة المؤسسات وروح المسؤولية والمصالح العليا للوطن.
– خامسا : مراجعة وتعزيز الآليات الدستورية لتأطير المواطنين، عبر مراجعة وتقوية دور الأحزاب السياسية التوعوية والتواصلية والتأطيرية، في نطاق تعددية حقيقية وتنافسية، وتعزيز مكانة المعارضة البرلمانية، واعادة تأهيل المجتمع المدني ومشاركة المواطنات والمواطنين في الحياة العامة، وذلك للرفع من منسوب الوعي الجماعي لكل المواطنين.
– سادسا : تقوية تطبيق آليات تخليق الحياة العامة، وربط ممارسة السلطة والمهام والمسؤوليات العمومية بالمراقبة والمحاسبة، فهناك حاجة ماسة تقتضي تأمين المسؤوليات وحمايتها من كل أنواع التلاعبات والفساد الذي يؤثر على مسار السياسات العمومية و على سمعة البلاد والمؤسسات وعلى المردودية التنموية، حيث أن تقارير المجلس الأعلى للحسابات تفقد قيمتها بدون فتح تحقيقات في الملفات التي يشوبها الفساد وهدر المال العام. وفي هذا المجال يجب تعزيز المقاربة الأمنية العمومية المتعددة الاهتمامات لما لها من أهمية في التقليل من المخاطر ومواجهة الاختلالات والحد من الافلات من العقاب وفك الحصار عن المشاريع التنموية.
– سابعا: استنهاض أدوار هيآت الحكامة الجيدة، وتقوية الاهتمام بحقوق الإنسان وحماية الحريات والعودة للعمل بالمقاربة التشاركية والاصغاء والتشاور من جديد بشكل عمودي وأفقي داخل بنية الدولة والمجتمع باعتبارها مقومات المغرب الحاضر والمستقبل خصوصا مستقبل البوادي المتضررة من الظرفية الاقتصادية الحالية، حيث أن هيئات الحكامة لها دور هام في تحريك الحقائق المسكوت عنها وتثير ما يمكن القيام به من اجراءات لمواجهة مختلف الاشكالات والقضايا.
وتماشيا مع ما تفرضه المرحلة الحالية من تحديات داخلية ودولية، يجب العودة الى روح خطاب 9 مارس بإحياء التعبئة الجماعية، للحفاظ على الثقة والإقدام، والإرادة والالتزام، وجعل المصالح العليا للوطن فوق كل الاعتبارات، خصوصا في ظل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، التي يحاكيها مرور العالم بفترة مخاض غير محسوبة العواقب وغير واضحة التوجهات، وما يتطلبه التوقع من أخذ للاحتياطات التي تعتبر اليقظة ووحدة الجبهة الداخلية من عوامل الرصد والمواجهة للإكراهات. فتخليق النقاش الوطني حول المشروع المجتمعي بين كل الفئات المغربية والجهات، وأحزاب ونقابات، والشباب الطموح، بروح وطنية ومسؤولية عالية حول الرهانات والقضايا الوطنية الأساسية من أجل ترسيخ نموذج ديمقراطي تنموي متميز، مع الحرص على قيام كل المؤسسات والهيآت بالدور المنوط بها، على الوجه الأكمل، والالتزام بالحكامة الجيدة، والتركيز على العدالة الاجتماعية، ومقومات المواطنة الكريمة، كلها مبادئ جامحة تفرض نفسها في ظل التغيير المتواصل ولكونها تنسجم مع الثوابت الوطنية وأساسية لمواجهة ولاستثمار كل أنواع الأزمات.
الدكتور أحمد درداري
أستاذ التعليم العالي بجامعة عبد المالك السعدي
كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بتطوان
رئيس المركز الدولي لرصد الأزمات استشراف السياسات بمرتيل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى