لحظة فارقة في تاريخ المدرسة العمومية يصنعها نساء ورجال التعليم

كيمية العياشي

playstore

لكي يفهم إضراب الأساتذة بالمغرب لا بد من أن يوضع في سياقاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي عرفها ويعرفها بلدنا، ودون ذلك سنضل الطريق،ونسقط في تأويلات تخرج الملف التعليمي عن بعده المجتمعي والحضاري،في كونه القاطرة التي تسير بالمجتمع نحو التغيير الحقيقي،الذي يستحيب لتطلعات المجتمع في تحقيق حياة كريمة،أو تحكم عليه بالنكوص والرجعية والتخلف.

وأرفض كل الرفض اختزال الحراك التعليمي ،بهذه الوحدة الأستاذية الغير مسبوقة،في كونه تكتلا من أجل مطالب “خبزية ومادية” فقط،كما يفهم أو تروج له الجهات الرسمية،وإن كان واقع الأستاذ المادي أصبح مزريا،أمام الأزمة الاقتصادية وارتفاع تكاليف المعيشة بشكل غير نسبوق،وإنما هو تعبير عن حالة من الانسداد والفشل في إصلاح التعليم بالمغرب،رغم الملايير من الدراهم التي أنفقت عليه،آخرها 43 مليار التي رصدت لما سمي بالمخطط الاستعجالي لإصلاح التعليم،والذي يحاكم على خلفيته اليوم مجموعة من مسؤولي قطاع التعليم.

إنه تعبير عن وعي بالمؤامرة التي تحاك ضد المدرسة العمومية،التي تعد الفضاء الذي يُعَلِّم ينشِّئ ويكون ويؤهل أكثر من 82% من أبناء الشعب المغربي ،إذا ما علمنا أن القطاع الخاص يستحوذ على 18% فقط من مجموع التلاميذ المتمدرسين.

إذن المعركة تحمل بعدا مجتمعيا وحضاريا أكثر مما هو مادي كما يتم الترويج له،هو ثورة من أجل تمكين غالبية أبناء الشعب من تمدرس جيد يحقق مبدأ تكافؤ الفرص كما تنص عليه القوانين الدولية،وتنزيلا لما يتضمنه دستور المملكة من قوانين تصب في هذا الاتجاه.

بالرجوع إلى الإصلاحات التي عرفها قطاع التعليم،وآخرها النظام الأساسي الجديد،الذي يعد أجرأة لمجمل الخلاصات التي تمخضت عن “خارطة الطريق 2022_2026 لإصلاح المدرسة العمومية”،نجد أن الأستاذ الذي كان ومازال العنصر المحوري في العملية التعليمية التعلمية مغيب تماما،والأخطر أن كل أصابع الاتهام في فشل منظومتنا التعليمية تشير إليه،وتتهمه بالمسؤولية عما آل إليه الوضع في المدرسة العموية،و في كونه المسؤول عن هدر الزمن المدرسي للطفل بسبب كثرة التغيبات ،وبالكسل والجمود وعدم الرغبة في مواكبة الإصلاح الذي ترتئيه الوزارة.

فإذا نظرنا إلى تحديد سن ولوج مهنة التعليم في 30 سنة أو أقل،وإلى الأهداف من مشروع التكوين الأساس بالمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين وإنماء الكفاءات،وآخرها ما تضمنه النظام الأساسي الجديد من إجراءات حاطة من كرامة الأستاذ وسالبة لحريته،إلا دليلا على أن هناك إجماعا لدى صانعي القرار في وزارة التعليم أن بيت الداء ومكمن الخلل وسبب أعطاب منظومة التعليم يكمن في أستاذ فاشل ضعيف مستهتر بعمله.

في هذا السياق يمكن أن نفهم غضبة نساء ورجال التعليم،وخروجهم في هذا الشكل الاحتجاجي الوحدوي التاريخي،إنها غضبة من أجل الدفاع عن كرامة الأستاذ،التي ما فتئت أطراف عدة تعمل على خدشها والحط منها،واتهامه في وطنيته ورسالته الحضارية،غضبة من أجل مدرسة عمومية يكون الأستاذ رائد إصلاحها ومشاركا في بلورة أي تغيير في أهدافها.

هي لحظة فارقة بين عهدين ،عهد كانت تحدد معالم السياسات التعليمية بين ردهات المكاتب المكيفة في تغييب تام لرجال ونساء التعليم،وعهد سيصبح فيه للأستاذ دور حاسم في تجويد تلك السياسات،وتحديد الوسائل لأجرأتها على أرض الواقع.

إن نظرة فاحصة إلى واقعنا التعليمي،وما آل إليه الوضع من تراجع في مستوى التلاميذ وضعف في اكتساب معارفهم ومهاراتهم،مرده إلى ظروف عمل أقل ما يمكن أن يقال عنها بئيسة وغير محفزة،خاصة بالعالم القروي،حيث لا سكن وظيفي،لا طرق ،لاحرمة لمؤسسة،لا مرافق صحية،لا مكتبات،فضاءات تعليمية عقيمة….،ولولا تضحيات الأساتذة،وتحديهم لظروف العمل القاهرة لكان تعليمنا أسوأ بكثير مما هو عليه الآن.

خلاصة: أعتقد أن الجميع مدرك الآن ،أحزابا ونقابات وأسرا،أن المدخل الأساس ،وليس الوحيد طبعا،لإصلاح التعليم وإعادة الدور الطلائعي للمدرسة العمومية،يفرض علينا الاهتمام بأوضاع الأستاذ المادية والاعتبارية والمهنية،وأن اختزال فشل التعليم في رجال ونساء التعليم ،هو محاولة للهروب من تحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية في إيلاء هذا القطاع ما يستحقه من اهتمام في السياسات الحكومية.

ومن الشجاعة أن نقول أن هناك من له مصلحة في إضعاف المدرسة العمومية، من خلال الإساءة والتقليل من قدر أستاذها،وعدم الاهتمام بوضعه المادي والاعتباري.

فكل الدعم والمساندة لصانعي مستقبلنا،رجال ونساء التعليم،في معركة الكرامة التي يخوضونها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

playstore
زر الذهاب إلى الأعلى