الدر البيضاء تناقش البعد الحضاري و التنموي لتراثنا الثقافي الشعبي

playstore

سمير السباعي
في إطار الاحتفالات بالذكرى 24 لعيد العرش المجيد و بتنسيق مع جمعية تكدة للمسرح والفنون الشعبية نظمت مقاطعة سيدي بليوط بالدار البيضاء يومه الأربعاء 19 يوليوز 2023 على الساعة الثامنة ليلا بفضاء المركب الثقافي سيدي بليوط بنفس المدينة، ندوة فكرية تحت شعار ” التراث المغربي و دوره في ترسيخ الهوية الوطنية”، حيث شكل هذا الحدث الفكري مناسبة لتسليط الضوء عبر عدد من المداخلات حول الأبعاد الحضارية التي يختزنها تراثنا المغربي خاصة في بعده الشعبي. ضمن هذا السياق أشار أحمد دخوش الإعلامي و الكاتب و الفاعل الجمعوي الذي قام بتسيير هذا اللقاء على أن تنظيم هذا الأخير يأتي ضمن إطار الرغبة في إبراز أهمية تثمين و رد الاعتبار لتراثنا المغربي بمختلف تجلياته و أصنافه كقيمة حضارية، تجسد عبر مختلف أشكال تطورها التاريخي لأنماط و سلوكيات و ذهنيات عيش الأجداد والآباء بما يحمل معه من عمق آني في تعزيز الانتماء إلى هذا الوطن في إطار صيرورة ثقافية تؤمن بشرطية استحضار الماضي لبناء الحاضر واستشراف المستقبل. جاءت في هذا الإطار مداخلة الإعلامي والفاعل الجمعوي عبد الله لوغشيت التي عنونها ب”مدخلات تثمين وصون التراث ببلادنا” لتشكل أرضية نقاش فكري أولي، قصد مناقشة عدد من المحددات و تقديمها كتوصيات قابلة لأن تؤطر أي فعل رسمي يروم فعلا تثمين التراث خاصة على مستوى الدار البيضاء وجعله رافعة تنموية حقيقية على صعيد الجهة، ضمن إطار عام يستلهم روح ومنطوق الرسائل الملكية ذات الصلة بالموضوع و تقرير المجلس الاقتصادي و الاجتماعي، و كلها وثائق مرجعية حسب لوغشيت قد وضعت خارطة الطريق لأي مشروع تنموي يجعل من التراث أفقا لتحقيق التنمية ببلادنا. في هذا السياق شدد نفس المتدخل على أن أولى المدخلات العملية والفعلية لتثمين وصون تراثنا الوطني هو الاتجاه بشكل جاد لجعل المدرسة التعليمية بالمغرب، منفتحة بشكل واضع على هذا التراث بكل تعابيره قصد تربية ناشئة متشبعة بالقيم الحضارية للمغاربة حاملة هم الحفاظ عليه وتثمينه. أما المدخل الثاني الذي ركز عليه لوغشيت ضمن هذه المقاربة التي حاولت تأطير الاشتغال على هذا الموضوع، فهو حتمية المواكبة الرقمية للمنتوج التراثي وتعابيره من خلال الدعوة إلى إنتاج أعمال تثمن أشكال وأنماط التراث المغربي، وتعرف به على صعيد الوسائط الرقمية الجديدة، بما يضمن ويتقاطع مع إلزامية إشعاع فعلنا التراثي و جعله شرطا أساسيا في تحقيق الفهم والتعايش المشترك مع الآخر حسب التوجيهات الملكية السامية التي استشهد بها لوغشيت. يبقى من الأهمية بمكان حسب نفس المتدخل الاعتراف بأن كل هذه الإجراءات ستبقى غير كافية ما لم تكن مواكبة بشكل عملي بآليات للتبع والتشخيص الدائم و ذلك قصد إيجاد السبل الكفيلة، بمواكبة الآفاق التنموية الواعدة التي يزخر بها تراثنا خاصة في جانبه المعماري من خلال العمل على تأهيل بنيات الاستقبال السياحي المعززة فعلا لتثمين حقيقي لهذا التراث المغربي. و قد جاءت مداخلة ضيف هذه الندوة الدكتور حبيب الناصري كرئيس لمهرجان الفيلم الوثائقي بخريبكة و مختص في السينما و الفنون الشعبية التراثية و فاعل تربوي لتعبر هي الأخرى عن مجموعة من القضايا الراهنة، التي يعيشها التراث المغربي في شقه الشعبي حاليا خصوصا مع التحولات الرقمية العالمية الراهنة. وقد اختار الناصري كعنوان لمداخلته “العولمة و الموروث الثقافي الشعبي، تجربة تكدة نموذجا”، حيث أبرز أن أهمية هذه الأخيرة تكمن في توجهها نحو تسليط الضوء على الإشكالات التي تطرحها العولمة اليوم بأبعادها الرقمية والاقتصادية والاستراتيجية، على تراثنا الثقافي الشعبي الذي يعد نتاج تراكم حضاري و تاريخي لعدد من المكونات الثقافية لمجموعة من العناصر البشرية على طول تاريخ هذه الأمة المغربية. و بالتالي فالقيمة الكبرى لهذا التراث الثقافي الشعبي حسب الناصري دائما تتجلى أساسا، في قدرته على الحفاظ بشكل عميق على مكنون جوهري هو هويتنا المغربية في خضم هذه التحولات العالمية التي أفرزتها العولمة، كظاهرة تسعى جاهدة إلى تبضيع عناصر الحياة بحثا عن شيء واحد هو الربح. وهو ما يجعل الجذور الثقافية الشعبية في تراثنا المغربي صمام أمان حسب تعبير الناصري ضد كل أشكال العنف الرمزي والبصري والرقمي الذي يعيشه المتلقي المغربي حاليا في إطار هذه السطوة الرقمية الحالية. صحيح أن المداخلة أكدت على أن ركوب قطار الحداثة هو ضرورة تاريخية لا محيد عنها، إلا أنها أشارت في المقابل على أن هذا لا يصطدم أبدا مع جعل روافد تراثنا الشعبي إحدى منافذ ولوجنا لهذه المنظومة الحداثية، خصوصا إذا تم الانتباه إلى الزخم الحضاري و المؤهلات التنموية التي تحملها أشكال هذا التراث الثقافي، الذي هو في عمقه ذاكرة جماعية خصبة تتجلى في ألوان مختلفة من التعبير و العمران البشري مثل العادات و التقاليد القديمة والمباني التاريخية. و هي مساحات تراثية جاذبة للنشاط السياحي بامتياز و معززة لجوانب من الفعل الدبلوماسي الثقافي المغربي على الصعيد العالمي. وقد عمل الناصري على التأكيد على أن النجاح في هذه المقاربة الهادفة لصون تراثنا وتثمينه في ظل التحولات العالمية الجديدة لن يتم دون تعزيز الاشتغال على البعد المحلي في هذا التراث وتفكيك الذاكرة الشعبية والثقافية لكل منطقة من مناطق بلدنا سواء كانت بادية أو قبيلة أو مدينة ما دامت كلها تعبر عن تراث الإنسان المغربي. و الانطلاق في ما بعد إلى تثمينه على المستوى الجهوي وصولا إلى البعد الوطني المتلاحم والمتعايش مع ما هو كوني عالمي. و هو مسار حسب الناصري لا يمكن تفعيله ما لم تنخرط مدرستنا التعليمية المغربية في هذا التثمين لتراثنا المغربي، خاصة على مستوى تدريس أدبنا الشعبي بمختلف متونه الشفاهية المتنوعة لنؤسس بذلك تصالحا و قنوات اتصال لأطفالنا وشبابنا مع جزء كبير من ثقافتهم وهويتهم الأصيلة. وقد عبر الناصري على أن اختياره لمجموعة تكدة كنموذج لمناقشة هذا الموضوع يأتي من نجاح و قدرة هذه الأخيرة طوال مسارها الفني الطويل، على استلهام أشكال من الثقافة الشعبية في مختلف أعمالها الغنائية والمسرحية، وهو ما يظهر في المعجم و الإيقاعات التراثية التي تنطق بها أعمال الفرقة التي استطاعت بفضلها مخاطبة جميع المغاربة. وفي الأخير فقد شدد الحبيب الناصري استشرافا منه لمستقبل هذه التجربة الغنائية والمسرحية المغربية تكدة على ضرورة القيام بأبحاث علمية لتفكيك الخطاب التراثي داخل أعمال هذه الاخيرة، داعيا في نفس الآن إلى توثيق شامل لهذا المسار خاصة عبر الصورة و ذلك حفاظا على هذه الذاكرة الفنية مع العمل على تكوين الخلف القادر على صونها ما دام أن جوهر أعمالها هو ملك ثقافي جماعي مغربي. كما دعى الناصري إلى جعل تراثنا الشعبي رافدا تربويا مهما سواء عبر الأسرة أو المدرسة لتحقيق تصالح هادف لأجيال اليوم مع ثقافتهم الشعبية، خاصة إذا ما تم تحفيز هذا السياق بدعم التأليف و عقد المهرجانات الداعمة و المثمنة لهذا الرصيد التراثي الشعبي. للإشارة فقد حضر الندوة مجموعة من الفاعلين الثقافيين والمسرحيين والجمعويين من المغرب وخارجه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

playstore
زر الذهاب إلى الأعلى