
بعد 22 عامًا من الحديث الإنساني عن “مخيمات اللاجئين”، تكشف مدينة تندوف وجهًا آخر من التناقضات السياسية، الأمنية، والاجتماعية، حيث يختلط الخطاب الإنساني بالدعاية العسكرية، وتتحول المعونات إلى سوق سوداء، في ظل واقع قانوني استثنائي خارج سلطة الدولة الجزائرية وخارج الشرعية الدولية.
مدينة لا تشبه الخرائط: تندوف بين الدعاية والرقابةتُعرف تندوف لدى الرأي العام العالمي بأنها “مدينة المخيمات”، لكنها في الواقع قاعدة عسكرية مغلقة تحت السيطرة المباشرة للجيش الجزائري.
المدينة نفسها، البالغ عدد سكانها حوالي 60 ألف نسمة (بينهم عشرات آلاف الجنود)، تحتضن أهم ثكنات المنطقة العسكرية الثالثة، ومقر القطاع العملياتي “جنوب تندوف”، وتُسيّر وفق منطق الطوارئ الأمنية الدائمة.خارج أسوارها، على بعد ما بين 10 و170 كلم، تنتشر ستة مخيمات يديرها “البوليساريو” تحت إشراف مشترك مع الجيش الجزائري.
تحمل هذه المخيمات أسماء مدن مغربية (العيون، الداخلة، السمارة…) في مفارقة رمزية مقصودة.سيادة مزدوجة: بوليساريو يتحكم، والجيش الجزائري يراقبيمارس البوليساريو إدارة ذاتية كاملة داخل المخيمات، من خلال مؤسسات سياسية وإعلامية وعسكرية متمركزة في ربوني، المعروفة داخل أدبياته بأنها “عاصمة الجمهورية الصحراوية”.
توجد هناك مقار حكومية، متاحف دعائية، إذاعة وتلفزيون رسمي، إضافة إلى مراكز تدريب ومخازن عسكرية ومكاتب لبعض المنظمات الدولية.
ومع ذلك، فإن كل حركة للأفراد أو البضائع تمر عبر نقاط تفتيش متعددة داخل تندوف، حيث يحتكر الجيش الجزائري السيطرة على الطرقات، ويمنح تصاريح التنقل المحدودة الأجل، حتى للاجئين الراغبين في الخروج المؤقت من المخيمات.دولة داخل الدولة: مخيمات خارجة عن القانون الجزائري والدوليرغم أن المخيمات تقع على التراب الجزائري، ترفض الجزائر أي مسؤولية قانونية عنها، معتبرة أنها تحت “السلطة الحصرية للبوليساريو”.
والنتيجة: فراغ قانوني كامل، حيث لا تطبّق قوانين الجزائر، ولا تخضع لرقابة قضائية دولية، ولا ترتبط بأي التزام تعاقدي يمنحها صفة دولة أو سلطة قضائية معترف بها.المحاكم داخل المخيمات تدار من طرف “قضاة” من البوليساريو، غير مستقلين ولا خاضعين لأي مسطرة قضائية شفافة. لا محامين، لا استئناف، لا مراقبة خارجية. السجون، أبرزها سجن “ظَيبية” غير الرسمي، تضم معارضين وأشخاصًا “مزعجين” تم احتجازهم أشهرًا دون تهم واضحة.
مجتمع مغلق… توازن هش قائم على التجسس والترويعالجيش الجزائري يراقب من بعيد، بينما الميليشيات التابعة للبوليساريو تتولى فرض النظام الداخلي داخل المخيمات. يتم تنظيم هؤلاء وفق نموذج عسكري كلاسيكي: قيادات، مناطق، تسليح، ومقرات تصنيع محلية للزي الرسمي والتجهيزات.
النظام السياسي قائم على حزب واحد لا يعترف بالتعددية، وانتخابات شكلية تمنح رئاسة أبدية لقيادات مثل إبراهيم غالي، خلفًا لمحمد عبد العزيز.كل أشكال الاختلاف السياسي أو الاحتجاج المدني تُقابل بالقمع أو الإقصاء أو الاختفاء، وهو ما رصدته تقارير أممية تصف المخيمات بـ**”المناطق الرمادية”** حيث يسود الحكم العرفي والانتهاكات المتكررة.
تندوف-لوطفي: الوجه الآخر… حين تتحوّل المساعدات إلى رفاهية النخبفي قلب مدينة تندوف، تعيش طبقة من “الأثرياء الجدد”، من كبار الضباط وتجار التهريب (الـ”ترابندو”) في أحياء حديثة مثل تندوف-لوطفي، حيث تنتشر المقاهي والمطاعم التي تعرض مواد مساعدات دولية (عليها ختم: “donation EU, not for sale”). في المقابل، المخيمات تبقى غارقة في العوز.
بين صمت دولي وتواطؤ جزائريرغم التقارير المتكررة من منظمات مثل هيومن رايتس ووتش والأمم المتحدة وACAPS، يبقى الوضع في تندوف رهينة لعبة سياسية إقليمية، حيث تُستغل معاناة الصحراويين كورقة ضغط، بينما يتواصل النظام المغلق دون محاسبة.تندوف ليست فقط معسكرًا… إنها قصة غموض، وتناقض، وقمع ممنهج في قلب الصحراء، بعيدًا عن عدسات العالم.