تغطية لأشغال ندوة فكرية: سمير السباعي
تحتل المجلات الثقافية مساحة داخل مشهدنا الإعلامي المغربي خاصة أنها شكلت في فترات تاريخية معينة منبرا لتداول و نقاش الفعل الثقافي ببلادنا إن لم نقل معبرة عنه بهذا الشكل أو ذاك. ضمن هذا السياق وفي إطار التوثيق و التفاعل الإعلامي مع بعض لحظات النقاش الفكري التي عرفها المعرض الدولي للنشر و الكتاب الدورة 29 بالرباط و الذي أسدل ستاره الأسبوع الماضي، نظمت رابطة المجلات المغربية بشراكة مع وزارة الشباب و الثقافة و التواصل بفضاء الكتاب داخل أحد أروقة نفس المعرض المذكور يومه السبت 19 ماي 2024 على الساعة الرابعة زوالا لقاء فكريا حاول من خلاله عدد من الباحثين الأكاديميين والإعلاميين مناقشة واقع الإعلام الثقافي في المغرب بين تاريخية التأسيس و ما يطرحه الواقع الآن من تحديات على عدد من المنابر و المجلات التي اختارت المسألة الثقافية كمادة خام لتشكيل ممارستها الإعلامية. حاول الجامعي و الباحث عبد الصمد بلكبير في مداخلة تمهيدية له بالمناسبة عند بداية هذه الندوة أن يقدم قراءة مفاهيمية نظرية عمل من خلالها على شرح بعض السياقات التاريخية التي يجب الانتباه إليها عند الحديث عن العلاقات الممكنة بين الصحافة و الثقافة، كمفهوم مرتبط بأشكال الإنتاج المعرفي الحديث للإنسان الممهد للفعل التاريخي و المنتج لحركته .،بعيدا نسبيا عن ما سماه نفس المتدخل بالمعارف التي ظلت تتحرك في عموميتها داخل حضن الدولة القائمة التي ضمنت إلى حد كبير تداول هذه المعرفة أو تلك سواء كانت معرفة دينية أو فلسفية أو أدبية ولتصبح هذه الأخيرة جزءا من مشروع الدولة نفسها و إحدى أدوات التصويغ الفكري لوجودها سواء تعلق الأمر بدولة الإسكندر المقدوني داعمة المشروع الفلسفي الأرسطي أو بالكيانات السياسية في الأندلس منتجة تجربة الشاعر ابن زيدون و غيرها من الأمثلة التاريخية حسب ما يستشف من حديث بلكبير. صحيح أن هذا الأخير قد اعتبر أن الخطاب الثقافي هو معرفي كذلك إلا أنه ربطه بشرطية أن يكون قادرا على التناغم مع السياقات العامة و قابلا لأن يكون محصول لحظة تاريخية قادرة على تحريك الأحداث وصناعة المنعطفات إن صح التعبير. الأمر الذي بدا واضحا في تجربة النهضة الأوروبية خلال العصر الحديث حيث عبر البرجوازيون حينها عن رغبتهم في احتضان حركة الموسوعيين الفكرية أمثال روسو و فولتير و أفكارهم الثورية لتحولها إلى مادة معرفية و خطاب ثقافي ناهضت من خلاله الطبقة البرجوازية، أركان النظام الذي كان قائما حينها في القارة العجوز وعقيدته السياسية و الفلسفية و الدينية حسب ما جاء في مداخلة بلكبير. لكن الملاحظ حسب هذا الأخير أن هذا التطور لم يتحقق في المسار التاريخي العام للعالم العربي والإسلامي حيث كان بالإمكان أن تلعب الطبقة الوسطى في الضفة الجنوبية للبحر المتوسط خلال لحظات تاريخية معينة نفس الدور الذي لعبته طبقة البرجوازيين في الضفة الشمالية للحوض المتوسطي خصوصا أن الفضاءات المحلية كانت تنشط فيها خطابات ثقافية شعبية، كان بإمكانها أن تمنح قاعدة معرفية لأي حركة نحو التغيير من مقامات بديع الزمان الهمذاني بالمشرق وصولا إلى فنون القول بالملحون والزجل في المغرب كأنفاس تعبيرية تأسست حسب نفس المتحدث خارج نسق الدولة و مؤسساتها. لتكون القفزة الحضارية من نصيب أوروبا خلال هذه الفترة بعد أن استفادت حتى من تراث المسلمين خاصة في الأندلس لتطعم به تجربتها النهضوية قبيل الحقبة الحديثة. حاول بلكبير أيضا أن يجعل من هذا التقديم على ما يظهر مدخلا عمل من خلاله على مناقشة نشأة الممارسة الإعلامية في المشهد المغربي مقارنة مع ظهورها في أوروبا المستفيدة من زخم مسارها النهضوي الحقيقي والتي ساهم فيها الشرط التاريخي إلى حد كبير في تشكيل بوادر صحافة ثقافية تثقيفية واضحة الوظيفة و المعالم وممهدة لفعل سياسي معين متحرك حسب ما يستنتج من مداخلة بلكبير الذي أكد في هذا السياق أن التجربة الأولى التي يمكن رصدها كمحاولة جنينية في الكتابة الصحفية هي التي بدأها إخوان الصفا في رسائلهم الثقافية المنشورة و التي ستتقاطع مع شكل و نمط التحرير داخل المجلات الأوروبية التي ستظهر في القرنين 17 و 18م حسب بلكبير دائما. صحيح أن نفس المتحدث أكد على أن اللحظة الاستعمارية التي ستتعرض لها البلاد المغربية بداية القرن العشرين ستزيد في إرباك المشهد المغربي على اعتبار أن ما يمكن تسميته ببرجوازية محلية سيتحول اهتمامها من الصراع مع كل حديث جاء به المستعمر بعد أن كان صراعها قبل الاستعمار موجها لأساليب الإنتاج الإقطاعية داخل المغرب حسب ما يرصد من كلام بلكبير ذلك أن الهجمة الاستعمارية أعاقت بشكل كبير تقبل الذهنية المغربية الجمعية إن صح القول لمظاهر التحديث عند الآخر المستعمر. قبل أن تفضل نخبة جديدة في بلادنا أمثال علال الفاسي و المكي الناصري ومحمد داوود حينها العمل من خلال المجلات الثقافية سواء الأجنبية الداعمة للمسألة المغربية أو بعض المنابر المحلية التي ولدت من رحم الحركة الوطنية المغربية على بث روح وطنية و خطابات غلب عليها الدعوة إلى إصلاح ثقافي داخل المجتمع المغربي، كشرط لتحقيق الاستقلال. في حين سيختار الأستاذ محمد البكري مقاربة موضوع الندوة من خلال الحديث عن حضور المجلة الثقافية كجنس صحفي داخل المشهد الإعلامي ببلادنا له خصوصيته التي تميزه عن باقي أشكال الوسائط التواصلية المعروفة مثل الجرائد اليومية والكتب المتخصصة، حيث أكد أن محدودية ما يمكن أن نسميه وجود جمهور قابل لاستهلاك الثقافة و التفاعل معها عبر المجلات يعرقل إن أردنا القول طموح لعب المجلة الثقافية لدورها الحضاري كأداة للتثقيف و التنوير بالإضافة إلى ما تطرحه إشكالات أخرى على مستوى شكل المجلة و مستوى النشر و التمويل اللازم لاستمرار تداولها بين القراء و المهتمين، علما أن نفس المتدخل كان واضحا حينما أشار إلى أن عولمة الثقافة اليوم تطرح تحدي قدرة المجلات الثقافية المغربية اليوم على تقديم مواد إعلامية بلغات التداول العالمية خاصة العربية قابلة لأن تنافس وسائط أخرى على المستوى الوطني والإقليمي والدولي ،مع ضرورة العمل على إعادة تنشيط قنوات النشر و التوزيع لتصل المجلة الثقافية إلى أكبر نسبة قراء ممكنة خصوصا إذا ارتبط المجهود بجعل المضمون قابلا لأن يلبي الحاجات القرائية للجميع دون نزعة تخصصية داخل هذه المجلة أو تلك رغبة في جعل الثقافة تلعب دورها التاريخي كقاعدة لتوليد الروح المغربية. خصوصا أن التقاء مشاريع أصحاب التجارة والمال و العلماء من أعلام الحركة الوطنية إبان زمن الحماية الفرنسية على المغرب أعطى الدليل أن المسألة الثقافية قابلة لأن تكون مدخلا لتشكيل فعل وطني تثقيفي اليوم. أما أستاذ التاريخ والفاعل الإعلامي محمد معروف الدفالي فقد جعل من مداخلته مساحة لقراءة تاريخية في تجربة التأسيس للمجلات داخل المشهد المغربي كمنبر يساهم في التأسيس للفعل الثقافي داخل المجتمع، معتبرا هنا أن الفترة الممتدة من الثلث الأخير من القرن التاسع عشر إلى ثلاثينات القرن العشرين شكلت السياق التاريخي الذي كان له دوره في تعرف المغاربة على المجلة كجنس صحفي إما عن طريق المشرق العربي وما كان يفد من هناك من مجلات أو من خلال الغزو الاستعماري الذي جعل من تنشيط و تأسيس المنابر الإعلامية في المغرب المحتل وسيلة للترويج لمشروعه الاستعماري و إعطاءه تصويغا إيديولوجيا له وسط جماهير المغاربة. صحيح أنه و حسب حديث الدفالي فعدد من تلك المجلات اختارت أن تنتصر للمسألة المغربية من خلال نشرها لمواد خاصة للتعريف بحقوق المغرب المشروعة في نيل الاستقلال إلا أن فئة من الحركة الوطنية المغربية حينها، قررت الانخراط في تجربة الإعلام الثقافي عبر تأسيسها لمجلات مثل مجلة السلام لمحمد داوود و المغرب الجديد للمكي الناصري. أما عمر العسري أمين مال رابطة المجلات المغربية المنظمة لهذا الحدث الفكري فقد برزت مداخلته كمساحة حاولت أن تناقش واقع حضور المجلات الثقافية في المشهد الإعلامي المغربي اليوم و الأدوار الممكن أن تستمر هذه المنابر في الاضطلاع بها داخل الحركة الفكرية الراهنة ببلادنا، خصوصا أن نفس المتدخل أشار استنادا إلى بعض الدراسات الإحصائية المغربية والعربية أن الموضوع الأدبي وباقي تخصصات المعرفة التعليمية لا زالت هي من تحرك أساسا عملية الطباعة و النشر للمجلات ببلادنا ضمن جهود تحاول من خلالها مؤسسات عمومية و أخرى مجتمعية ضمان استمرارية تلك الوسائط الإعلامية الثقافية في ظل صعوبات يعرفها هذا القطاع مرتبطة أساسا بإكراه تمويل عملية النشر نفسها لعدد من تلك المجلات و محدودية حضور الشأن الثقافي ببلادنا سواء في الممارسة الإعلامية، خاصة في الإعلام الرسمي التقليدي كمعطى معرفي قادر على أن يمنح الفاعل السياسي بالمغرب خلفية فكرية يستطيع من خلالها تحسين أدائه التدبيري لقضايا الشأن العام حسب ما يستشف من مداخلة العسري دائما. و هو ما جعل هذا الأخير يؤكد أن راهن الإعلام الثقافي ببلادنا يحتاج بذل مجهودات كبرى خصوصا على مستوى ضرورة التأطير القانوني الأمثل لهذا الفعل الصحفي مع البحث عن حلول تعالج صعوبات التمويل عند أغلب المجلات الثقافية لتوفير الشروط المرغوبة في انتشارها و تداولها على أكبر نطاق وسط المجتمع. وقد حاول عدد من الحضور التفاعل في نهاية هذا اللقاء الفكري مع ما طرحته مداخلات المشاركين من نقاش انصبت أغلبها على طرح ضرورة انفتاح الإعلام الثقافي اليوم ببالمغرب على الوسائط الرقمية الجديدة كفضاءات نشر متحركة بقوة، مع وقوف البعض منها على طرح سؤال حول إمكانية عودة المجلات الثقافية لتمارس دورها التثقيفي كما كان يسمح به زخم سياقات الأمس في العقود الأولى لاستقلال المغرب، وهي مساحات تدخل حاول المحاضرون الرئيسيون بالندوة التفاعل معها حيث أكد العسري أن رابطة المجلات المغربية تراهن ضمن مشاريعها القادمة على الرقميات الجديدة ، من خلال حرصها على إنشاء موقع إلكتروني يكون منصة للتعريف بجميع المجلات الثقافية المغربية المنشورة على الساحة، في حين فضل محمد البكري التأكيد على أن عودة زخم الإشعاع الإعلامي الذي كانت تقوم به مجلات الثقافة ببلادنا في السنوات الماضية يبقى قائما شريطة توفر الإرادة الفردية و الجماعية وعمق التكوين بالنسبة للمشتغلين في القطاع . قبل أن يؤكد عبد الصمد بلكبير في توضيح له على أن التعليم يبقى هو المدخل الأصيل إن صح التعبير، لإعطاء المسألة الثقافية مكانتها الحقيقية ضمن سياسة رسمية للدولة تدعم الفعل الثقافي لصالح الجماهير الشعبية بعيدا عن أي نزعة فرنكفونية أو تسويق فلكلوري للخطاب الثقافي حتى وإن كان الأمر مرتبطا بسياق كوني يتسم بأزمة عالمية تعتبر عابرة تعيشها الثقافة داخل عدد من البلدان حسب ما رصدناه من كلام نفس المتحدث. وتبقى مثل هذه المواعيد الفكرية مناسبة تسمح بفتح النقاش حول ممكنات تطوير إعلامنا الثقافي بالمغرب بما سيسمح الان ومستقبلا عودة دوره الحضاري في التثقيف.