لقاء علمي بالدار البيضاء ونقاش حول جوانب من ذاكرة معركة وادي اللبن 1558م بين البعد التاريخي و افاق التثمين المحلي
قلم: سمير السباعي
تشكل المعارك الحربية في تاريخ المغرب احدى المداخل الممكنة لقراءة جزء مهم من التاريخ المغربي و رصد عدد من السياقات المحلية و الدولية التي عاشتها بلادنا عبر محطات تاريخية متعددة كانت فيها هذه المعركة أو تلك في جانب كبير منها معبرا عن رغبة في الدفاع عن الخصوصية المغربية و مقومات استقلالها المجالي. ضمن هذا الاطار و في سياق سلسة اللقاءات التكوينية والعلمية التي ينظمها مختبر المغرب والعالم الخارجي التابع لكلية الاداب والعلوم الانسانية ابن مسيك هذا الموسم لفاءدة الباحثين في سلك الدكتوراه وباقي المهتمين تم يومه الخميس 22 فبراير 2024 بمقر شعبة التاريخ والحضارة التابع لنفس الكلية المذكورة على الساعة العاشرة صباحا تنظيم ورشة علمية موسومة بعنوان” معركة وادي اللبن 1558 م -السياق-الحدث- الامتدادات” مقدمة من طرف الدكتور الأستاذ خالد سرتي. وقد كان هذا اللقاء العلمي الذي أدار أشغاله الباحث الدكتور يوسف الزيات مناسبة بالنسبة لعدد من الباحثين من أجل التفاعل مع موضوع العرض و الاسترشاد بعدد من التوجيهات ذات البعد التكويني التي حرص الاستاذ المحاضر على تقديمها. و قد كانت مداخلة الطالب الباحث محسن بكاري في بداية هذه الورشة مدخلا و توطئة لموضوع عرض الدكتور سرتي من خلال حرص بكاري على تقديم ورقة سلط من خلالها الضوء على أهم معالم السياق التاريخي الذي أطر العلاقات المغربية العثمانية ابان ما نسميه بالعصر الحديث وبالضبط من أواخر المرحلة الوطاسية الى بداية بروز الحكم السعدي، حيث أكد الطالب الباحث أن الوطاسيين عملوا على بناء جسور من العلاقات مع مركز الخلافة العثمانية من خلال الاعتراف الرسمي بهذه الأخيرة كسلطة شرعية جديدة وصية على كل دار الاسلام و هو ما ضمن للخلفاء العثمانيين حسب نفس المتحدث نوعا من النفوذ الرمزي بالمغرب ابان الحكم الوطاسي و الذي تمثل اما في الدعاء للسلطان العثماني من على منابر المساجد المحلية أو سك بعض النقود الحاملة لأسماء عثمانية. لكن يبدو أن العلاقات المغربية العثمانية ستعرف منطقا جديدا مع بروز و صعود السعديين بالجنوب المغربي كحاملين لمشروع سياسي جديد أساسه بناء تجربة دولة مركزية جديدة داخل المجال بشكل هدد عمليا السلطة الوطاسية خصوصا مع تمكن محمد الشيخ السعدي (1544-1557م) من السيطرة على العاصمة فاس سنة 1554 رغم الدعم العثماني الذي قدم للوطاسيين للحفاظ على وجودهم السياسي بالمغرب حسب ما يستشف من مداخلة محسن بكاري. ويبدو بناء على ما جاء في توطئة هذا الأخير أن العلاقات المغربية العثمانية خلال هذه الفترة ستتأثر بنوعية المشاريع و المواقف التي تبناها كل طرف من الاخر و نقصد هنا الدولة السعدية في المغرب والدولة العثمانية في المشرق و ولايتها بالجزائر. فالسعديون على الأقل خلال فترة التأسيس للدولة أظهروا نوعا من الرغبة في بناء تحالف مع العثمانيين من أجل ايقاف والتصدي للمشاريع الاستعمارية الايبيرية التي ظلت نشيطة على السواحل المغربية، قبل أن يصطدم هذا الرهان بحقيقة طموح مركز الحكم العثماني ( الأستاتة) في التوسع الاستعماري بدوره داخل البلاد المغربية خصوصا اذا علمنا أن رغبة السعديين ابان لحظة بناء وتأسيس سيادة الدولة على المجال كان هو التوسع أيضا داخل مجال بلدان المغرب الكبير( الفضاء المغاربي) وهو ما سيزيد من حدة التوتر و سيؤسس لعوامل الصدام بين الطرفين المغربي والعثماني حسب ما استخلصناه من حديث بكاري. صحيح أن موضوع العرض الرئيسي سبق و أن قدمه الأستاذ خالد سرتي في لقاء فكري سابق نظمه منتدى كفاءات اقليم تاونات اواخر السنة المنصرمة ناقش فيه عدد من الباحثين والفاعلين المدنيين والاكادميين والسياسيين الجانب النضالي والبعد الوطني لمعركة وادي اللبن، الا أن تاريخية هذه الأخيرة و طبيعة العمل الوثائقي الذي قام به سرتي من أجل انجاز ورقته البحثية حول الموضوع جعلته يختار تقاسم عدد من المعطيات التاريخية و المنهجية ذات الصلة بطرق البحث الممكنة في مثل هذه المواضيع لتكون معينا للطلبة الباحثين المعنيين بالورشة من أجل الاسترشاد بها في مشاريعهم البحثية الراهنة والمستقبلية. في هذا السياق أكد الباحث خالد سرتي أن بعض وثاءق الأرشيف الاسباني التي جاءت في “المصادر الغميسة لتاريخ المغرب” التي قام بجمعها و تركيبها هنري دوكاستري قد شكلت مساحة وثاءقية مهمة مكنت نفس المتحدث من بناء عرضه البحثي بناء على معلومات مصدرية مهمة تظمنتها عدة تقارير و مراسلات للحاكم الاسباني لمليلية المحتلة مع الدولة الاسبانية ابان السنة التي وقعت فيها معركة وادي اللبن، و هي في مجملها معطيات مرتبطة بتفاصيل حول هذه الواقعة الحربية تمكن الاسبان من الحصول عليها سواء من الأسرى الفارين من المعركة أو من خلال شبكة الجواسيس وناقلي الأخبار الذين كانوا يشتغلون لحساب اسبانيا اعتمادا على ما يحصلون عليه من معلومات من الساكنة المحلية للمجال. والجدير بالذكر أن الدكتور سرتي أكد أن العثور على هذه الوثائق الدفينة ذات النفس المصدري الواضح هو تأكيد على أن شرطية البحث والتنقيب تظل ملازمة للباحث في التاريخ من أجل الامساك بأكبر عدة مصدرية ممكنة دون التحجج بقلة المصادر ذات الصلة بهذا الموضوع أو ذاك حسب ما جاء في مداخلة نفس المتحدث، و هو موقف منهجي يستدعي حسب سرتي دائما حسن اختيار من طرف الطلبة الباحثين للمواضيع التي توفر امكانيات أكبر للحصول والوصول الى المصادر. علما أن جانب اتقان اللغات الأجنبية الأساسية في البحث يظل هو الاخر معطى جوهري سيمكن الباحثين من توسيع افاق الاشتغال و بناء قنوات الاتصال المعرفي مع عدة وثاءق أجنبية لا يتحقق دراستها الا عبر وسيط اللغة المكتوبة بها حسب نفس المداخلة. وعودة الى موضوع معركة وادي اللبن 1558 فقد أكد سرتي أن هذه الأخيرة تعتبر هي الأخرى من المعارك ذات الصيت التاريخي والملحمي ان صح التعبير في تاريخ المغرب كمعركتي الزلاقة 1086 م ووادي المخازن 1578م، وهو ما جعل نفس الأستاذ يطرح التساؤل حول عدم وجود دراسات أو أبحاث متخصصة تناقش تاريخية هذا الحدث في بلادنا سواء في من طرف باحثين مغاربة أو أجانب؟! علما أن اشارات الكتابات المصدرية المغربية و العثمانية ( التركية) حول هذه المعركة تكاد تكون شبه قليلة اللهم بعض النتف و الشذرات هنا وهناك حسب سرتي. و الملاحظ بناء على ما جاء في محاضرة هذا الأخير فالمعركة جاءت نتيجة توغل عثماني عسكري قاده الحاكم العثماني على ولاية الجزائر داخل المجال المغربي بهدف احتلال والسيطرة على فاس عن طريق تدشين مشروع حربي تم فيه تسخير امكانات بشرية مهمة حوالي 9000 جندي من المشاة وفرق الانكشارية (جيش نظامي عثماني) مدعوم بعدد من القطع البحرية الحربية التي فضل عثمانيو ولاية الجزائر وضعها رهن اشارة جيش الحملة على ضفاف بحيرة مارتشيكا (شمال شرق المغرب) اما كناقلات لسلاح المدفعية أو كخط دفاعي مهمته تأمين التوغل البري للجيش العثماني داخل الأراضي المغربية نحو فاس من أي هجوم اسباني يقدم من شمال البلاد. و المتتبع لطبيعة المتن الوثاءقي المصدري الذي اعتمده سرتي في بناء ورقة العرض يرصد معطيات مهمة حول محددات رد الفعل المغربي الذي قاده أساسا السعديون ضد هذا المشروع الاستعماري العثماني حيث نرى أن اعتماد السعديين بشكل غير متوقع للسلاح الناري من خلال توظيف بعض الأسرى المسيحيين في هذا الباب الى جانب اختيار أخذ مبادرة الهجوم المباغث ضد المقاتلين العثمانيين قبل وصولهم فاس وبالضبط في مكان يسمى بوادي اللبن ذي الخصائص التضاريسية والطبيعية المساعدة، قد ساعد الجيش السعدي نفسه على حسم نتيجة المعركة لصالح المغرب خصوصا أنه كان مدعما في ذلك بانخراط قوي لعدد من الصلحاء و شيوخ الزوايا اما بالمشاركة الميدانية في الحدث أو من خلال بث خطاب دعائي و تحفيزي لفائدة الساكنة و العامة لتكون في خدمة المقاومة السعدية ان صح التعبير حسب ما فهمناه من العرض الرئيسي للورشة، أمثال محمد الغزواني و عبد الله المغاري. و يبدو أن هذه الاضاءات التاريخية التي قدمها خالد سرتي تفتح أوراشا بحثية ممكنة متعلقة أساسا بتاريخ النسيج القبلي بمنطقة وادي اللبن و نعني هنا أساسا معطيات ديموغرافية و بشرية حول قبائل جبالة حيث ظهر من خلال مداخلة نفس المتحدث أن عددا من الساكنة المحلية كان لها حضور و مساهمة وازنة في صناعة هذا الحدث التاريخي ان صح القول بشكل يضع أمام الباحثين تحدي التنقيب في تاريخ هذا الساكنة لرصد فعلها التاريخي في المجال وممكنات استثماره الحالي على عدة أصعدة. وهو ما يتناغم في ما جاء من تأكيد لسرتي أن ندوة منتدى تاونات السالفة الذكر كان من أهم توصياتها و مخرجاتها هو الحديث عن مشروع بحث أركيولوجي ليكون محطة في البحث الميداني عن شواهد تنطق بحدث معركة وادي اللبن و هوامش من تاريخية المنطقة خاصة المتعلقة بالمشهد القبلي الى جانب مشروع وضع نصب تذكاري بموقع المعركة نفسها يؤرخ لدلالتها الوطنية التاريخية . وقد عرفت نهاية عرض الندوة الرئيسي انخراط بعض الطلبة والباحثين الى جانب الاستاذ المحاضر في لحظة نقاش و تفاعل مع ما جاء به العرض من نقاط و معطيات مهمة، حيث حاولت المداخلات أن تتخذ شكلا أفقيا ما أمكن حسب التعبير التوجيهي لمنسق اللقاء الباحث يوسف الزيات. وبشكل عام ركز النقاش على الأفق البحثي المهم الذي يطرحه موضوع معركة وادي اللبن حاليا خاصة في مايتعلق بالبحث في تاريخ قبائل و ساكنة المنطقة و تنشيط البحث الأثري بنفس المجال للكشف عن جوانب من تاريخيته، بالاضافة الى طرح بروز المعطى الديني أو السيكولوجي كعامل محتمل في تفسير محدودية الاشارة الى المعركة موضوع الدرس داخل عدد من المصادر و الدراسات المغربية أو المشرقية نظرا لأن طرفاها كانا ينتميان الى نفس دار الاسلام و هو ما أعاق سيكولوجيا محاولات التدوين والكتابة و التوثيق لما له علاقة بالحدث، بالاضافة الى التأكيد أيضا على ضرورة تجاوز بعض التعابير عند الحديث عن تاريخ هذه المعركة والتي يبدو أنها تمثل اسقاطا تاريخيا و حكم قيمة أكثر منها تحليل موضوعي. كما حرصت مساحات أخرى من النقاش على الاشارة الى ضرورة التحلي بمسافة موضوعية عند تناول تاريخية هذه المعركة بالدرس والتحليل خصوصا أن عددا من المعطيات تضيع بسبب هلاك عدد من المشاركين صناعة الحدث، وهو ما يجعل على الباحث خاصة في التاريخ المعاصر الاعتماد على الأرشيف الفرنسي لأنه يعطي امكانات وثاءقية مهمة في هذا الباب. قبل أن يفتح نقاش اخر بخصوص افاق البحث في التراث الشعبي والشفهي عند ساكنة المجال حاليا والذي وقعت فيه معركة وادي اللبن للامساك بتمثلات و موروث شفهي له علاقة بشكل أو باخر بتاريخية الحدث و بالتأثير العثماني الثقافي داخل المجال حتى و ان ظل المغرب سياسيا مستقل عن السلطة العثمانية. الى جانب طرح أيضا أهمية التأسيس لمشروع بحثي جماعي يكون هو السبيل الأنجع للاشتغال على الأرشيف الاسباني المتعلق بتاريخ المعركة موضوع الورشة. و تظل مثل هذه اللقاءات العلمية مناسبة مهمة من أجل التنقيب في ذاكرة أحداث تاريخية مر منها المغرب خاصة اذا كانت ذات أبعاد ملحمية و نضالية من أجل دراستها بشكل موضوعي و تثمين رصيدها الموروث في مشاريع التنمية الثقافية الراهنة. الشكر موصول للطالبة الباحثة مريم الكنداوي التي مدتنا بتوثيق سمعي لأشغال اللقاء العلمي بترخيص من مدير المختبر المذكور الدكتور خالد سرتي والذي من خلاله أنجزنا هذه الورقة التفاعلية. و الصورة المعتمدة تم حملها من الصفحة الرسمية على الفايس بوك لنفس المختبر. كل عام والدرس التاريخي ببلادنا بألف خير