فرجتنا المسرحية و رصدها لتحولات المجتمع المغربي بين عروض الأمس و تجارب اليوم
تشكل قراءة الممارسة المسرحية ببلادنا في علاقة بقدرتها على رصد و مسرحة التحولات التي عرفها و لازال المجتمع المغربي مدخلا رئيسيا لفهم العلاقات العضوية الممكنة التي حاولت الفرجات المسرحية المغربية، رسمها مع سياقات التحول داخل الساحة المغربية خصوصا ما يتعلق بحركة المجتمع ككل. ضمن هذا السياق و في إطار فعاليات المهرجان الوطني للمسرح بالحي المحمدي الدورة العاشرة –دورة المرحوم حسن بنواشن- الذي نظم الأسبوع المنصرم من طرف مجلس دار الشباب الحي المحمدي بشراكة مع مجلس مقاطعة نفس المنطقة الترابية، تم يومه الخميس 23 ماي 2024 على الساعة السابعة مساء بفضاء الخزانة البلدية بنفس الحي تنظيم لقاء فكري حاول من خلاله السيناريست إدريس كصرى عبر لحظة حوارية أن يستنطق قراءة الناقد والكاتب حسن نرايس حول مدى حضور تحولات المجتمع المغربي داخل أنفاس الممارسة المسرحية ببلادنا عبر رصد لبعض التجارب المؤسسة وصولا إلى محاولة التقاط هذا النفس المجتمعي في الفرجة المسرحية الناشطة على ساحة الفعل الثقافي اليوم ببلادنا. سنجد أن كصرى اعتمد في بداية حواريته الفكرية مع نرايس على أحد الكتابات المسرحية لهذا الأخير كنص موجه و مولد للأسئلة و الموسوم بمسرحية “بقاو في ديوركم” والذي قدم له الإعلامي والكاتب عبد الحميد الجماهري بعد أن ظهر هذا المتن المسرحي كلحظة كتابة خاصة حاول من خلالها نرايس التفاعل مع ظرفية كورونا و ما أفرزته من تحولات ساخرة داخل المجتمع المغربي قرر الكاتب نفسه أن يخصص لها سردية مسرحية مكتوبة. وهو ما تناغم إلى حد كبير مع التأكيد الذي أشار من خلاله كصرى إلى أهمية موضوع هذا اللقاء الفكري الذي يرصد المهام الكبرى المنوطة بالفاعل المسرحي خاصة كاتب النص القادر على مسرحة التحولات المتحركة داخل البنية المجتمعية القائمة بما تختزنه من آمال و آلام إنسانية و تناقضات في أحايين كثيرة إن صح التعبير، و ليجعل من لحظات اجتماعية معينة عابرة في الغالب قابلة لأن تمسرح فوق خشبة المسرح. و من أجل أن تبدو هذه التغطية الإعلامية تفاعلية أكثر مع ما طرحته هذه الندوة من نقاش و انسجاما مع الحوارية الخاصة لهذه الأخيرة التي لن تستطيع سردية الكتابة التقريرية على ما يبدو التفاعل معها، فإنه عموما يمكن الإمساك بثلاثة محاور شكلت الأرضية التي حركت مختلف مناقشات ومداولات هذا اللقاء الفكري. أولا، شكل الحديث عن خصوصية تجربة الكتابة المسرحية عند نرايس هامشا واسعا داخل هذه الجلسة الفكرية سواء على مستوى مدى حضور المسألة الاجتماعية المغربية بتحولاتها العميقة داخل المتن المسرحي للكاتب نفسه أو على مستوى النبش في الخطوط العامة للإنتاج النصي إن صح التعبير داخل كتابات هذا الأخير كانت إبداعية أو نقدية. الأمر الذي نجد أن أنفاس هذا الحوار الفكري قد نطقت به بشكل كبير، وهي تشير إلى عمق مساهمة لحظات المعيش اليومي الأولى التي عاشها نرايس في بدايات حياته داخل دروب الحي المحمدي كفضاء تاريخي تمازجت فيه ثقافات محلية متعددة قادمة في أغلبها من جغرافيا المغرب العميق، و ليمنح هذا التنوع البشري لساكنة الحي حينها زخما ثقافيا معينا حرك مشاهد اليومي بطريقة مسرحية عابرة للزمان والمكان و بتراجيدية غرائبية في بعض تفاصيلها. و هي التي سيجد نرايس نفسه مشدودا إليها ومتناغما معها قبل أن تشكل أفقه الأول، نحو عالم التخييل المسرحي لدراما الحياة اليومية بحس كتابة اختار لها الكاتب ضيف اللقاء أن يواجه من خلالها قلقه الوجودي، عبر كتابة ساخرة متهكمة على تناقضات و عنف حركية المجتمع ككل و بنزعة شعرية حاولت أن تنتصر إلى حد ما للآخر أكثر من ذات الكاتب نفسه، خصوصا أن بعض تجارب الانفعال الساخر في التعبيرات الفنية الشعبية المغربية من ما تفرزه حركية المجتمع المغربي من قضايا تؤكد هذا المعطى و هي التي تختزنها ذاكرة فن القول الشعبي داخل الحي المحمدي وباقي هوامش التجمعات الحضرية ببلادنا، لفكاهيين مغاربة اختاروا إنتاج الكلمة الساخرة كتعبير عن موقف ساخر من عنف لحظة اليومي، إلى جانب ما ينطق به التراث العربي في هذا الباب خاصة متون الجاحظ الساخرة بالأساس، حسب ما جاء في حوارية نرايس مع كصرى. علما أنه وحسب هذه الأخيرة فإن القراءات النصية الأولى التي قام بها نرايس للعناوين الأدبية المتداولة بقوة في سنوات دراستة الأولى، إضافة إلى ما حصل عليه من تكوين في جامعة السوربون في باريس هي مسارات كان لها أثر في إكساب نرايس رؤية معالجة يمكن أن ننعتها بتقدمية أكثر لتلك المتون التراثية حيث أصبح النظر إلى النص في كليته الشرط الوحيد حينها في تجربة نرايس لفهم و استيعاب سردية المعنى المحمولة بين الكلمات دون حاجة لمعمار القراءة النقدية التقليدية التي ظلت محكومة في معالجتها للنصوص بهاجسي الشكل والمضمون حسب ما جاء في الحوار المرصود. حيث تم الاستشهاد في هذا الإطار بنصوص ألف ليلة ولية و مقامات بديع الزمان الهمذاني، كمتون عبرت عن رؤية وجودية خاصة لكتابها حيال ظرفيات مجتمعية امتزج فيها السرد بالخيال و الواقع. و قد كان لهذا المسار مساهمة واضحة في تمكين نرايس من مساحات اندهاش خصبة إن صح القول، حينما وجد نفسه خلال مقامه الباريسي راغبا في فهم تمثل المتلقي الفرنسي لصورة العربي في الفكاهة الفرنسية التي كانت تمرر عبر قنوات التلفزيون الفرنسي هناك، حيث كانت نمطية إعلامية معينة تسوق لشخصية عربية وسط جمهور العموم والنخبة على حد سواء، الأمر الذي سيحاول نرايس تفكيكه كموضوع داخل كتابه الموسوم ب”الضحك و الاخر ، صورة العربي في الفكاهة الفرنسية” ليكون لهذا الأخير في ما بعد أثرا واضحا عند عموم القراء المغاربة وباقي المهتمين. ما سيفتح الباب أمام تجربة مسرحية للراحل الطيب الصديقي الذي قرر احتضان جزء من السردية التي جاءت في كتاب نرايس تناغما مع المشروع المسرحي الثقافي للصديقي الذي جعل من النصوص التراثية العربية مدخلا لمناقشة و مسرحة الواقع ولحظات الآن باحثا عن التأصيل لممارسة مسرحية مغربية تنتصر للموروث الجمعي و تقطع إلى حد ما مع تقليدية الاقتباسات من النصوص الأجنبية التي ظلت تسيطر سنوات على الفعل المسرحي الوطني و العربي على حد سواء حسب ما استنتجناه من الأحاديث الحوارية للندوة الفكرية موضوع المقال. وقد شكل رصد التجربة المسرحية المغربية المعاصرة عند التأسيس و مدى نجاحها في التعبير مسرحيا عن أنفاس التحولات المجتمعية و عرضها فوق الخشبة المحور الثاني الذي بدا محركا آخر للنقاش التي عرفته هذه الجلسة الحوارية بين نرايس وكصرى، خصوصا أنه وحسب هذه الأخيرة فما عرفه العالم من أحداث كبرى كالحرب العالمية الثانية قد أكد أن المسرح في ماهيته هو فعل متفاعل مع التحولات ما دام أن هذا السياق هو ما جعل العبث و القسوة تيمات جديدة للأعمال المسرحية العالمية التي عرفتها الفترة، وهو الأمر الذي نطقت به نفس الحوارية حينما تمت الإشارة إلى كتابات توفيق الحكيم و سعد الله ونوس كأمثلة لكتابات عربية مسرحية مؤسسة استطاع أصحابها منح الواقع مساحة حضور قوي داخل هذه السردية المسرحية أو تلك بل و بأسلوب شاعري في بعض النماذج. بالإضافة إلى ما قام به الرواد المسرحيون المغاربة الأوائل أمثال الطيب الصديقي و الطيب لعلج و عبد القادر البدوي في هذا الباب حينما نجحوا في مغربة الاقتباس المسرحي من النصوص الأجنبية وجعلها ناطقة بمشاهد الواقع المغربي وروحه المتحركة بعد أن كانت الحلقة كفرجة شعبية و الحواريات الشعرية الأولى في تاريخ العرب كشعر الصعاليك و النقائض أمثال الفرزدق والأخطل وصولا إلى شعرية أبو تمام و البحرتي وغيرهم فضاءات قول مسرحي كان من خلالها هؤلاء يتفاعلون من الهامش مع الواقع بل ويعلنون رفضهم له في بعض الحالات دون الحاجة إلى الخشبة المسرحية بمفهومها الإيطالي حسب ما يستنتج من كلامية اللقاء. لتشكل مقاربة الفعل المسرحي الراهن في بلادنا و مدى حضور أنفاس المجتمع المغربي داخل بعض التجارب المسرحية الممتدة إلى اليوم محورا ثالثا حاولت من خلالها أحاديث هذا اللقاء، أن ترصدها وتناقشها خصوصا أنه وحسب هذه الأخيرة فإن تجربة المسرح المغربي اليوم تطرح تحديا حقيقيا على الفاعلين المسرحيين أنفسهم من أجل الابتعاد نوعا ما عن المقاربات المسرحية، التي تحاول رصد المشهد الاجتماعي المغربي بزاوية معالجة فوتوغرافية لا تسمح بالتقاط القضايا والمواقف القابلة لأن تمسرح على الخشبة بعمق مسرحي مطلوب إن صح التعبير يسمح للجمهور المتلقي بالفهم و التفاعل مع الفرجة المسرحية المنجزة. علما أن أنفاس نفس الحوار الفكري قد أكدت على زخم الممارسات المسرحية النشيطة التي اضطلعت بها أجيال مغربية على الأقل منذ الستينات مع تجربة تأسيس المسرح الجامعي مع الراحل الكغاط مرورا بتجارب مسرح الهواة سنوات السبعينات والتي أعطت دفعة قوية للعمل المسرحي المغربي المؤمن بالتفاعل مع السياقات المجتمعية والتقاط لحظاتها المفصلية داخل عروض مسرحية تأسست بناء على خلفية فكرية رصينة لروادها مثل عبد الكريم برشيد مع ما رافق ذلك من تقليد إصدار البيانات الشارحة لإديولوجية هذا العمل أو ذاك لصالح العموم والمهتمين المتعطشين للفرجات المسرحية الناطقة بأنفاس المجتمع بطريقة حرفية و بعمق في الكتابة النصية. وصولا إلى تألق بعض التجارب المسرحية خلال مرحلة الثمانينات و التسعينات من القرن الماضي ببلادنا كتجربة مسرح اليوم لتنتج تلك الفترة زخمها المسرحي الخاص مدعمة تجربتها بمسارات عدد من الفاعلين المسرحيين الذين حملوا مشعل الفن المسرحي ببلادنا كتابة وتشخيصا و تأطيرا أمثال الحسن النفالي و الراحلة ثريا جبران و محمد كافي و عبد الإلاه عاجل و مصطفى الداسوكين و آخرين، إلا أن حوارية اللقاء كانت واضحة في إشاراتها لما يعتري الفعل المسرحي اليوم ببلادنا من صعوبات في تحليل المشهديات المجتمعية ببلادنا و التعبير عنها فوق الخشبة بشكل يطرح سؤال المعنى في الفرجة المسرحية المغربية الآن على حسب ما جاء في أحاديث الندوة التي أكدت نجاح أعمال مسرحية سابقة سواء مغربية أو عربية في اقتناص اللحظات القابلة للمسرحة بإبداع واضح متناغمة مع سياقات تاريخية حينها فرضت إبداعية غير قابلة للتأجيل. حتى و إن كان شرط المسافة الفاصلة الموصلة لقراءة تحليلية لهذا الحدث المجتمعي أو ذاك معطى لا بد منه عند البعض لإنتاج كتابة مسرحية مستوعبة بشكل أعمق لدينامية التحول المجتمعي المرصود، رغم كون استقراء تجربة حسن نرايس خلال حوارية هذا الأخير مع كصرى قد أشارت إلى أن ذاتية الكاتب المسرحي و موضوعية تحليله تظلان متلازمتين و محركتين بشكل جدلي إن صح التعبير لسردية الكتابة المسرحية . لا ننسى أن هذه اللحظة عرفت أيضا مشاركة الناقد و الفاعل المسرحي الحسن النفالي والفنان والممثل محمد كافي كأعلام ساهمت في تشكيل جزء من ذاكرة الممارسة المسرحية المغربية لعقود من الزمن حيث سمحت لهما مساحة حوارية خاصة داخل هذا اللقاء بالإضافة إلى الإعلامي محمد مغفور بالوقوف أولا، على خصوصية الكتابة المسرحية والفعل الثقافي والإعلامي المتنصر للفن المسرحي داخل تجربة حسن نرايس. و ثانيا، بجعل اللحظة مناسبة لتثمين ما لعبه مسرح الهواة في المغرب إبان فترة السبعينات خصوصا عبر ذلك التناغم العضوي مع قضايا الساحة الوطنية و العربية على حد سواء، عبر إنتاج نصوص مسرحية التقى فيها الاقتباس الواعي و المفكر فيه، مع الكتابة النشيطة المفتوحة على كل الأسئلة إن صح التعبير. للإشارة فقد عرفت هذه الجلسة الفكرية تقديم و ت وقيع مسرحية “بقاو في ديوركم” للكاتب حسن نرايس وسط مجموعة من الفاعلين المسرحيين و المهتمين بالشأن الثقافي ببلادنا.